صائد الغواصات
استعرضنا معكم فيما سبق قصة تدمير و إغراق المدمرة "إيلات" (و المدمرة "حيفا") في 21 أكتوبر 1967 و فيما يلي نقدم قصة أخرى جرت أحداثها ثاني أيام حرب يونيو مباشرة مع الساعات الأولى من فجر يوم الثلاثاء 6 يونيو 1967 فكانت مواجهة بحرية متكافئة أثبتت كفاءة المقاتل المصري مثلها في ذلك مثل عشرات المواجهات البطولية الأخرى التي حدثت خلال أيام حرب يونيو و التي تم أغلبها في ظروف غير متكافئة .. إلا أن ظلال الهزيمة طغت عليها و حجبتها فلم تنال حقها من التقدير .
صدرت الأوامر للفرقاطة المصرية "طارق Tarik F931" بقيادة الرائد عبد المنعم صديق و ضابط أول النقيب محمد عبد المجيد عزب بعد ظهر يوم الإثنين 5 يونيو بالخروج للمرور أمام سواحل الإسكندرية للمراقبة و الإبلاغ عن أي نشاط معادي .. انطلقت الفرقاطة في إظلام تام تجوب المياه في خط متعرج و هي في وضع الإستعداد للقتال مع تجهيز قنابل الأعماق.
في نفس الوقت كانت الغواصة الإسرائيلية "تانين INS Tanin" قد غادرت ميناء حيفا منذ صباح يوم الخميس الأول من يونيو متجهة غرباً لتتخذ موقعها أمام ميناء الإسكندرية في إنتظار الأوامر لتنفيذ مهامها و التي كانت من شقين، الشق الأول هو إنزال مجموعة من الضفادع البشرية (الوحدة 13) بغرض تلغيم بعض القطع البحرية الحربية الموجودة في ميناء الإسكندرية و الشق الثاني هو أن تشتبك الغواصة مع أي وحدة من وحدات القوات البحرية المصرية.
*(الوحدة 13 هي وحدة ضفادع بشرية إسرائيلية أنشئت عام 1948 لم تلق عناية كافية و فشلت في عدد من المهمات حتى بدء الاهتمام بتطويرها في السبعينيات).
تلقت الغواصة الأوامر بالبدء في تنفيذ مهمتها مساء يوم الاثنين 5 يونيو أول أيام الحرب فقامت أولاً بإنزال مجموعة مكونة من ستة من الضفادع البشرية، و بعد إنتهاء عملية الإنزال و أثناء انتظار عودتهم من مهمتهم بدأت الغواصة الإسرائيلية في البحث عن هدف للإشتباك معه و رصدت الفرقاطة المصرية "طارق" على بعد نحو 10 أميال شمال ميناء الإسكندرية و ذلك قبل شروق شمس يوم الثلاثاء 6 يونيو فقرر قائد الغواصة الهجوم عليها لإغراقها و أطلق عليها ستة طوربيدات على دفعتين.
يقول النقيب محمد عبد المجيد عزب في حديث على موقع دار المعارف (أنظر المصادر) :" فجأة شاهدت ثلاثة ألسنة من الدخان الأبيض تنبعث من سطح الماء على بعد نحو كيلومتر فصعدت إلى كابينة القيادة لأتبين الأمر و توقف قلبي عن الخفقان لتعرفي على ثلاثة طوربيدات تشق الماء متجهة نحونا بإتقان تاركة خلفها ثلاثة مسارات في الماء لا يمكن للعين المدربة أن تخطئها و في ثوان معدودة تم إطلاق صفارات الإنذار و تواجد كل شخص في موقعه و أعطيت الأمر بإلانطلاق بأقصى سرعة للأمام مع الدوران لأقصي اليمين و أخذت محركات الفرقاطة تهدر بشدة و هي تدور لتواجه الطوربيدات و تمكنت بفضل الله من المرور سالماً بين طوربيدين منهم .. و عاجلتنا الغواصة بدفعة طوربيدات أخرى إلا أنهم مروا على جانبي المدمرة و غرقا بعد أن انتهى مداهم".
بعد أن نجح النقيب عزب من تنفيذ تلك المناورة الصعبة و تفادي الطوربيدات انطلق لمطاردة الغواصة المعتدية "تانين" و تمكن من تحديد موقعها بنجاح من خلال تحديد خط سير الطوربيدات و الفترة التي انقضت حتى وصولها إلى أخر مداها بنفاذ وقودها وتم إطلاق قذائف الأعماق عليها و نجح في إصابتها بإصابات بالغة مما أجبرها على الفرار شمالاً رغم أنه كان من المفروض أن تنتظر لإلتقاط مجموعة الضفادع البشرية .. نجحت الغواصة بالفعل في الفرار و تمكنت من الوصول إلى ميناء حيفا بمشقة بالغة بعد شهر كامل رغم أن المسافة لا تحتاج لأكثر من يومين و ذلك بسبب الأضرار الجسيمة التي لحقت بها و نال قائدها أعلى الأوسمة الإسرائيلية لنجاحه في إنقاذ طاقمها و العودة بهم سالمين إلا أن الغواصة خرجت من الخدمة بعد ذلك.
تم تقديم تقرير كامل عن المواجهة إلا أن القيادة العسكرية لم تعلن عنها لغياب أي دليل مادي يعززها، و بعد مرور عامين أفصح قائد الغواصة "تانين" عن أسباب منحه أعلى وسام إسرائيلي فكان ذلك بمثابة تعزيز لا يقبل الشك للتقرير المقدم من قبل وليصدّق الرئيس جمال عبد الناصر فوراً على منح النقيب محمد عبد المجيد عزب نوط الشجاعة العسكري من الطبقة الأولى في 15 يوليو 1969.
نعود إلى نهاية شهر ديسمبر 1967 حيث تسلمت إسرائيل ثلاثة غواصات جديدة من البحرية البريطانية لتضمها إلى قواتها البحرية و أطلقت على إحداهم اسم "داكار" (INS Dakar Tz-77) و التي غادرت ميناء بورتسموث البريطاني يوم 15 يناير 1968 في أولى رحلاتها متخذة طريقها إلى ميناء حيفا الإسرائيلي .. و بعد عشرة أيام و عندما أصبحت الغواصة "داكار" على مقربة من السواحل الشمالية الغربية لمصر صدرت اليها الأوامر بالتجسس على ميناء الإسكندرية مقر قيادة القوات البحرية المصرية.
في نفس الفترة كان النقيب محمد عبد المجيد عزب قد انتقل لقيادة كاسحة الألغام "أسيوط 516"، و في يوم الأربعاء 24 يناير 1968 كانت الكاسحة قد انتهت من رحلة تدريبية لطلبة الكلية البحرية، و في طريق عودتها شاهد أحد الطلاب هدفاً صغيراً جداً يشق سطح البحر الساكن فلم يستطع تحديد هويته، فأبلغ النقيب عزب بذلك الذي تعرف على الفور على هويته كونه منظار لغواصة و أنها غواصة معادية لتواجدها فى منطقة يمتنع على غواصتنا التواجد فيها فأعطى أوامره على الفور بإتخاذ مراكز القتال و انطلق بأقصى سرعة للأمام للهجوم على الغواصة المعادية بقذائف الأعماق، و استمر فى مطاردة الغواصة بقنابل الأعماق والتى ما أن اكتشفت هجوم الكاسحة "أسيوط" عليها حتى بادرت بالغطس سريعاً و الفرار شمالاً للاتجاه نحو المياه الدولية ..
استمرت الكاسحة "أسيوط" في مطاردة الغواصة حتى إنقطع استقبال أي إشارة عن وجودها من خلال رادارات الرصد السمعية في السادسة من صباح اليوم التالي الخميس 25 يناير 1968 و التي رصدت الغواصة لأخر مرة على بعد نحو 160 كيلومتر جنوب غرب جزيرة قبرص .. و بعد مرور أكثر من 48 ساعة من المحاولات المكثفة للبحث عنها أعلنت إسرائيل عن فقدان الغواصة وطاقمها المكون من 69 ضابط و بحار إسرائيلي.
تعددت التفسيرات حول ما حدث للغواصة "داكار" حيث يذكر النقيب عزب أن الغواصة بادرت بالغطس سريعاً في مياه عمقها 36 متر بينما يحتاج هذا الطراز إلى 40 متر على الأقل لتنفيذ تلك المناورة بأمان فاصطدمت بقاع البحر مما أصابها بأضرار، بينما أدعت إسرائيل أن الغواصة تعرضت لمشاكل ميكانيكية أدت إلي فقدان القدرة على التحكم بها فغطست الي عمق لا يمكن لجسم الغواصة تحمله مما أدى إلى تهشمها و غرقها .. و قد شاركت عشرات من السفن الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية و التركية و اليونانية في البحث عن حطام الغواصة لسنوات عديدة بعد ذلك بلا طائل حتى أنه كانت من أولى مطالب الطرف الإسرائيلي التي طرحت في مفاوضات كامب ديفيد عام 1978 هي التصريح بالبحث عن حطام الغواصة "داكار" أمام سواحل الإسكندرية .. و لم تتوقف جهود البحث واستمرت لسنوات حتى تم اكتشاف الحطام في يونيو 1999 بواسطة معدات أمريكية متطورة على عمق سحيق يبلغ نحو 3,000 متر بين جزيرتي كريت و قبرص.
و بالرغم من إعلان إسرائيل عن فقدان الغواصة إلا أن الرئيس جمال عبد الناصر رفض الإعلان عن ذلك لغياب أي دليل مادي يؤكد دور مصر في إغراقها .. أما النقيب محمد عبد المجيد عزب فقد اشتهر بعد ذلك بين أفراد القوات البحرية بلقب "صائد الغواصات" بعد أن تمكن من تدمير نصف عدد غواصات العدو.
تم اكتشاف حطام الغواصة "داكار في يونيو عام 1999 و تم انتشال برج الغواصة و وضعه أمام المتحف البحري في حيفا عام 2003 ..
و في المقابل تمكنت الغواصات المصرية من إختراق مواني إسرائيل على البحر الأبيض المتوسط بنجاح عدة مرات لتنفيذ عمليات مراقبة و استطلاع وتم ذلك بعد مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار، و كانت الغواصات المصرية تقضي أكثر من 20 يوم في المهمة الواحدة تتنقل أثنائها بين مواني حيفا وأشدود و تل أبيب بمنتهى الثقة و المهارة لتنفيذ مهامها دون أن يدري بها العدو.
اللواء بحري أركان حرب متقاعد محمد عبد المجيد عزب - صائد الغواصات.
من مواليد الإسكندرية عام 1931 و خريج الدفعة الخامسة من الكلية البحرية و شارك في كل الحروب التي خاضتها مصر منذ العدوان الثلاثي عام 1956 و منح نوط الواجب العسكري عن أعماله في حرب اليمن و نوط الشجاعة العسكري من الدرجة الأولى من الرئيس جمال عبد الناصر عام 1969 عن مواجهته لغواصات العدو كما حصل على نوط الواجب العسكري من الدرجة الأولى من الرئيس حسني مبارك في ديسمبر 1981 تقديراً لإجمالي فترة خدمته بالقوات البحرية.
و يظل أعظم وسام حمله هو ساقيه اللتين تم بترهما نتيجة سقوط قنبلة أثناء وجوده كرئيس عمليات بميناء الأدبية بالسويس في يناير 1970.