الإختراق الثالث لميناء إيلات – العملية الثانية
التاريخ: ليلة الخميس 5/ الجمعة 6 فبراير 1970
الهدف: تدمير "بات شيفع" و أية سفينة أخرى قد تكون موجودة بالميناء
النتيجة: اغراق "بات يام" سفينة انزال جنود و إعطاب "بات شيفع" سفينة إنزال آليات
الأبطال: رائد مصطفى الطاهر – قائد العملية
التنفيذ: المجموعة الأولى: ملازم أول عمرو البتانوني/ العريف على أبو ريشة
المجموعة الثانية: ملازم أول رامي عبد العزيز/ الرقيب فتحي محمد أحمد
بعد نجاح العملية الأولى أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرار بترقية العميد محمود عبد الرحمن فهمي ترقية إستثنائية إلى رتبة اللواء و هو في أوائل الأربعين من عمره .. و في فجر يوم الخميس 22 يناير 1970 هاجمت قوات إسرائيلية جزيرة شدوان Operation Rhodes (انظر صفحة 40) و بعد انسحاب القوة الإسرائيلية بنهاية يوم الجمعة و في اليوم التالي السبت 24 يناير و أثناء تفريغ السفينة "بات شيفع" في ميناء إيلات يشأ القدر أن تنفجر حمولة الذخيرة في احدى السيارات مما أدي لمقتل نحو 20 إسرائيلي و تعطل باب الناقلة.
كان الرائد رضا حلمي قائد لواء الوحدات الخاصة في مهمة في يوغوسلافيا و كان الضابط الذي يليه و هو الرائد خليفة جودت قد كسرت ساقه في التدريب و وضعت في قالب جبس و بذلك أصبح الرائد مصطفى الطاهر قائد التدريب هو قائد اللواء بالإنابة .. و يقول اللواء محمود فهمي في مذكراته: "كان الرائد مصطفي الطاهر في مكتبي لمناقشة بعض الأمور عندما دخل سكرتيري ليسلمني مظروفاً به رسالة عاجلة من ادارة المخابرات الحربية فحواها أنه قد حدث انفجار كبير في الباب الأمامي لسفينة الإنزال "بات شيفع" في ميناء إيلات أثناء تفريغ بعض المعدات و الألغام من بقايا الإغارة على جزيرة شدوان .. و أيقنت على الفور أن السفينة ستحتاج إلى فترة أسبوع على الأقل لإصلاحها و أنها ستظل محجوزة في ميناء إيلات طوال هذه الفترة.
تحول حديثي مع الرائد مصطفى الطاهر على الفور إلى تخطيط لعملية إغارة جديدة على ميناء إيلات بهدف ضرب و إغراق السفينة "بات شيفع" و أية سفينة أخرى قد تكون موجودة بالميناء".
كان لواء الوحدات الخاصة قد اكتسب عدد من الخبرات بعد العملية الأولى تقرر على أثرها تعديل خطة التنفيذ بحيث تكون نقطة الإنزال من منطقة شاطئ الاستحمام بالعقبة بجوار فندق "العقبة هوليداي ان" بما يحقق عدة مزايا منها تفادي الرحلة البرية المنهكة من عمان حتى نقطة الإنزال السابقة بالقرب من حدود السعودية و التي كانت تستغرق ساعات عديدة ذهاباً و مثلها إياباً مع ما يكتنفها من مخاطر كما أنها تغني عن الاحتياج لزورق زودياك المتكرر الأعطال كما حدث في المرتين السابقتين و الإكتفاء بالسباحة لمسافة لا تزيد عن عشرة كيلومترات ذهاباً و إياباً يمكن للضفدع البشري أن يقطعها بسهولة، كما وفر ذلك فرصة لاختصار عدد المشاركين في العملية إلى أضيق الحدود (اشترك في تنفيذ العملية الأولى 14 ضابط و صف ضابط مصري بالإضافة إلى ضباط مكتب الملحق العسكري المصري و لا ننسى فضل عدد من رجال منظمة التحرير الفلسطينية و بعض الضباط العراقيين و الأردنيين)، و أما الميزة الأخيرة فهي اختصار زمن تنفيذ العملية من بدايتها إلى نهايتها بنسبة كبيرة .. إلا أن هذا التعديل واجه عائقاً وحيداً و هو دخول مدينة العقبة ذاتها و التي كان محظور دخولها إلا على المقيمين و العاملين بها (أنظر صفحة 82) و أمكن تجاوز هذا العائق بفضل تعاون الرائد الأردني البطل مطلق حمدان الذي تطوع لنقل المجموعة و إدخالهم إلى العقبة بسيارته.
أما من الناحية الأخرى فلا شك أن إجراءات تأمين الميناء عقب العملية الأولى الناجحة قد تضاعفت و أصبحت أكثر صرامة فكانت السفن الحربية لا تبيت داخل الميناء و كان عليها أن تخرج قبل حلول الليل و تظل متحركة فيصعب على الضفادع البشرية ملاحقتها ثم تعود إلى الميناء مع ساعات الصباح الأولى، أما داخل الميناء و رغم خلوه من السفن إلا أنه كان يتم إضاءة الأرصفة بكشافات قوية كانت رغم ظلام الليل تكشف كل ما يدور تحت سطح الماء بسهولة كما أحيط مدخل الميناء بشباك نصف بوصة تصل إلى قاع البحر تقريباً (عمق المياه 12-14 متر) تعوق الدخول إلى الميناء و لا تُفتح إلا لدخول وخروج السفن و أخيراً تم تكثيف معدل دوريات إلقاء عبوات المتفجرات المضادة للضفادع البشرية في محيط الميناء.
و ناهيك عن كل ما سبق فإن مجرد التفكير في إختراق موقع سبق إختراقه من قبل هو ضرب من الجنون فمثل هذا الموقع أصبح في عرف العمليات الخاصة "محروق" و ارتفعت درجة خطورة التعامل معه أضعافاً مضاعفة .. و لكننا هنا أمام إرادة التحدي و أمام القيادة الواعية المتعلمة التي تستفيد من تراكم الخبرات يساعدها على تنفيذ مخططاتها مقاتل صلب لا يهاب الصعاب رابط الجأش قادر على تقدير الموقف و اتخاذ القرار منفرداً .. مقاتل جرئ يتنافس مع زملائه على الفوز بشرف الاشتراك في العمليات .. و بالطبع كانت تعليمات القيادة للأبطال أنهم إذا قدّروا أن تنفيذ العملية محفوف بدرجة خطورة عالية فلهم أن ينسحبوا و لا يستكملوا المهمة .. و لكن كان إصرار الأبطال و عزيمتهم أقوى من أي مخاطر.
يقول اللواء محمود فهمي في مذكراته: " أمرت الرائد مصطفى الطاهر أن يتوجه إلى الأردن ليدرس تفاصيل العملية على الطبيعة ثم يرسل في طلب الأفراد و المعدات بعد تمام الإستعداد و الإتفاق على الترتيبات الكاملة لتوصيل الأفراد سراً بمعداتهم إلى نقطة الإنطلاق بجوار فندق العقبة هوليداي ان.
و أرسلته بخطاب مني إلى رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الفريق محمد أحمد صادق لتسهيل مهمته عن طريق ادارة المخابرات الحربية و أمرته أن يخلع شارة الضفادع و شارة المظلات التي يضعها على سترته حتى لا يشك أحد في أمره ويتساءل عن طبيعة مقابلته لرئيس هيئة الأركان و يستنتج منها ما نريد أن نبقيه سراً.
و بالفعل توجه الرائد مصطفى الطاهر إلى القاهرة حيث استقبله رئيس هيئة الأركان و كنت قد اتصلت به تليفونياً و رجوته أن يستقبله بمجرد وصوله .. و في اليوم التالي كان مصطفى على متن الطائرة المتجهة إلى عمان و يشير جواز سفره إلى أنه مدرس ذاهب إلى الأردن في رحلة سياحية.
و في عمان التقى الرائد مصطفى بالرائد ابراهيم الدخاخني و أوضح له طبيعة مهمته و تم الاتفاق على طريقة توصيل الأفراد بمعداتهم إلى العقبة و منها إلى نقطة الإنطلاق بجوار فندق "العقبة هوليداي ان"، و بعد الإنتهاء من كافة الترتيبات اللازمة لنجاح العملية أرسلت الإشارة لإستدعاء الإفراد".
و هنا يذكر البطل رامي عبد العزيز أن اللواء محمود فهمي قائد القوات البحرية استدعاهم إلى مكتبه (هو و رفيقه المرحوم البطل عمرو البتانوني) و هم شباب من الملازمين ليقوم هو شخصياً بتلقينهم المهمة مما أمدهم بطاقة كبيرة من الحماس و إحساس عظيم بالمسئولية و أعطاهم التعليمات بالبقاء في منازلهم إنتظاراً للأوامر و بالفعل تم استدعائهم لينطلقوا على متن طائرة أنتونوف 12 أقلعت بهم من مطار الدخيلة بالإسكندرية مساء الثلاثاء 3 فبراير و هبطت في مطار H3 العراقي بمعداتهم في الساعة الواحدة من صباح الأربعاء 4 فبراير حيث تم استقبالهم على أنهم أفراد من منظمة التحرير الفلسطينية و تم تزويدهم ببطاقات تحقيق شخصية تابعة للمنظمة و انتقلوا إلى عمان حيث استقبلهم الرائد ابراهيم الدخاخني و الرائد علاء هشام من مكتب الملحق العسكري بالسفارة المصرية بعمان و معهم الرائد مصطفى الطاهر قائد العملية حيث تم تأمين مكان إقامة سري لهم.
بدء الأبطال في تجهيز ألغامهم و انتهوا من ذلك في الثانية عشرة ظهراً من اليوم التالي الخميس 5 فبراير و وضعت الألغام في حقائب سفر عادية و تم التلقين النهائي للمنفذين حيث تقوم مجموعتان بالتوجه سباحة من نقطة الإنطلاق في خط السير المحدد و تكونت المجموعة الأولى من الملازم أول عمرو البتانوني و معه العريف على أبو ريشة و هدفهم السفينة "بات شيفع" و المجموعة الثانية من الملازم أول رامي عبد العزيز و معه الرقيب فتحي محمد أحمد و هدفهم السفينة "بات يام" .. و من الطريف أن الرائد علاء هشام قام بالتنبيه عليهم مراراً بتكرار ترديد الآية الكريمة "و جعلنا من بين أيديهم سداً و من خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون" .. فكانت لهم حصناً و صوناً.
بدء التحرك من عمان في الساعة الثانية من بعد الظهر في طرق مدقات بسيارات ملاكي و تم إستبدالها في منتصف الطريق بسيارات قوات مسلحة أردنية أعدها الرائد الأردني مطلق حمدان بالاتفاق مع المخابرات المصرية حيث تم نقل معداتهم اليها و واصلوا التحرك حتى وصلت المجموعة إلى نقطة الإنطلاق في الساعة السادسة مساءً تقريباً و كان الجو ممطراً و عاصفاً مما يسّر إلى حد ما المرور من نقط التفتيش و في تمام الساعة الثامنة و الربع نزلت المجموعتان إلى الماء.
و نستكمل القصة مع المرحوم البطل عمرو البتانوني حيث يقول: "تمت دراسة كل المتغيرات و حصلت القوات البحرية على الضوء الأخضر للقيام بالعملية قبل إصلاح العطب في الناقلة، وتم تشكيل مجموعتين الأولى بقيادتي وكنت برتبة ملازم أول ومعي الرقيب علي أبو ريشة و هدفنا السفينة "بات شيفع" والثانية بقيادة الملازم أول رامي عبد العزيز و معه الرقيب محمد فتحي و هدفهم السفينة "بات يام"، وتحركنا من الإسكندرية بمعداتنا الى العراق بطائرة أنتونوف حيث هبطنا في مطار H3 في الساعة الواحدة من صباح يوم 4 فبراير واستقبلنا أعضاء من منظمة فتح الفلسطينية و دخلت معداتنا على أنها خاصة بالمنظمة و سافرنا براً إلى عمان في الأردن حيث قمنا بالمبيت لليلة واحدة قمنا خلالها بتجهيز الألغام (لغم مع كل فرد) و المعدات و انتقلنا إلى ميناء العقبة حيث استقبلنا ضابط أردني برتبة رائد تطوع للعمل معنا بغير علم سلطات بلاده لأن المنطقة كلها هناك كانت مغلقة عسكرياً فكان من الضروري أن نحصل على معونة من أحد أفراد القوات المسلحة الأردنية.
دخلنا المنطقة العسكرية الأردنية وقمنا بالتجهيز النهائي ونزلنا الماء بالفعل في الساعة الثامنة والثلث مساء 5 فبراير 1970 بدون عوامة (زورق زودياك) لأنها كانت تحتاج لتجهيزات خاصة واعتمدنا على السباحة و الغطس .. وفي منتصف المسافة اكتشف الرقيب محمد فتحي أن خزان الأكسجين الخاص به أوشك على النفاذ فتم اتخاذ قرار بعودته إلى نقطة الإنزال في العقبة و أكملنا المهمة بدونه (ليكررالأبطال للمرة الثانية المخالفة للتعليمات الصريحة بأن تكون المجموعة المهاجمة من فردين على الأقل حيث أصر البطل رامي عبد العزيز على إستكمال المهمة بمفرده و قد وصف حماسه في تلك الليلة فيما بعد بقوله .. في عمري كله لم أكن أشعر بهذه اللياقة مثلما كنت في هذا اليوم) .. و وصلنا في منتصف الليل تماماً إلى ميناء إيلات بعد السباحة و الغطس لنحو خمسة كيلومترات".
أما رواية البطل رامي عبد العزيز (كتاب أبطال من مصر) فتقول: "اخدنا بعضنا و سافرنا و اخدنا معداتنا و رحنا على العراق مطار (H3) على الحدود الأردنية نزلنا هناك و بعدين أخدنا عربية و رحنا على الحدود الأردنية و دخلنا الأردن في عمان كانوا مجهزين لنا مكان قعدنا ليلة و تاني يوم طلعنا بمعداتنا على العقبة و كل شوية نغيير العربية علشان التمويه و أثناء ما بننقل معداتنا من عربية لأخرى كان في واحد مش قادر يشيل صندوق فرفعت معاه و اتخبطت فوق عيني و احنا بالليل ومش مركز ايه اللي حصل و ركبنا و داخلين على العقبة و أنا قاعد و معايا عمرو البتانوني بأسأله في حاجة كده زي مياه نازلة فوق عيني شاف عيني مقفولة و من فوقها جرح بينزف فقالي لأ لأ ما فيش حاجة .. ده شوية عرق.
كان في ضابط أردني مثال للوطنية و الشهامة اسمه الرائد مطلق حمدان بيساعدنا و أخدنا بعربيته و خبانا و دخلنا البوابة بتاعة العقبة و وصلنا استراحة الملك على الشاطئ علشان الحتة دي ما حدش يتخيل ان حد ممكن يدخلها و كنا بالليل الساعة الثامنة و قال لنا شايفين قدامكم هناك فوق الجبل لقينا ضوء أحمر قالنا لما تقربوا حتلاقوا كلمة Red Rock بالنيون الأحمر و ده كازينو فوق ميناء إيلات و علامة على مكانه و سابنا".
كان البحر مضطرباً و الأمواج عالية و لكن هذه الظروف كانت في صالحهم حيث لا يتوقع أحد هجوم في مثل هذه الأجواء ومر الأبطال الثلاثة من تحت الشباك و تقدموا يبحثون عن أهدافهم في الميناء المظلم بينما أصوات لنشات الحراسة تتردد حولهم و هم يلقون العبوات المتفجرة المضادة للضفادع البشرية، و يذكر المرحوم البطل عمرو البتانوني انه صعد إلى سطح الماء ليستكشف موقعه ليفاجأ برذاذ يصيب وجهه من أحد لنشات الحراسة الذي كان يعبر المكان قبل صعوده إلى سطح الماء بلحظة واحدة إلا أن قائد اللنش لم يراه .. و على مسافة نحو 200 متر من السفينتين التفت البطل رامي عبد العزيز نحو زميله عمرو البتانوني و شد على يده و افترق عنه و هجم بمفرده على "بات يم" في الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة و بعد عشرة دقائق كان قد انتهى من تلغيم السفينة و بدء في العودة.
نستكمل الرواية مع البطل عمرو البتانوني حيث يقول: "هجمت أنا و الرقيب علي أبو ريشة على الناقلة "بات شيفع" وقمنا بتلغيمها و بدلاً من ضبط توقيت الانفجار بعد أربع ساعات كما كانت تقتضي الأوامر لضمان اتاحة الوقت الكافي لعودتنا بأمان قمنا بضبط توقيت الانفجار على ساعتين فقط لنضمن تنفيذ العملية في أسرع وقت ممكن، ففرد القوات الخاصة له أن يقوم بالتعديل في الخطة الموضوعة حسب مقتضيات الظروف .. و في طريق العودة بعد نحو 500 متر رأينا ضفدعاً بشرياً يعوم فوقنا فلما اقتربنا منه بإحتراس اكتشفنا انه رامي عبد العزيز و كانت صدفة جميلة لا يمكن أن تتكرر من ناحية التوقيت والاتجاه رغم ظلام الليل.
وفي الساعة الثانية من صباح الجمعة 6 فبراير بدأت الانفجارات تدوي في إيلات وخرجت الدوريات الإسرائيلية للبحث عن منفذي الهجوم لكن كانت ارادة الله فوق كل شئ فقد وصلنا بنجاح إلى الشاطئ الأردني في الثانية و خمس و ثلاثين دقيقة من صباح الجمعة 6 فبراير.."
أما البطل رامي عبد العزيز فيقول (كتاب أبطال من مصر): "جهزنا نفسنا و كنا عمرو البتانوني و معاه على أبو ريشة و أنا ومعايا محمد فتحي نزلنا الميه الساعة الثامنة و الربع و ابتدينا نعوم كان في عاصفة و أمطار و بحر عالي و في منتصف المسافة سمعنا صوت لنش فغطسنا علشان ما يشوفناش و بعد ما صوت اللنش راح طلعنا لقيت زميلي محمد فتحي بيقول الحزام بتاع القناع بتاعه وقع فقررت فوراً أنه ما ينفعش يغطس و قلت له ارجع .. أنا كملت لوحدي بلغم واحد و لم نجد علامة Red Rock التي اعتمدنا عليها لتحديد الميناء و رغم الإظلام التام إلا أننا استطعنا تحديد موقع المراكب من خلال وجود الكشافات اللي كانت جنبها علشان يقدروا يشوفوا الضفادع البشرية.
كانت المسافة نحو 200 متر عندما اتجه عمرو البتانوني و زميله على "بات شيفع" و أنا رحت على "بات يم" و رغم الإضاءة و رغم العبوات الناسفة اللي كانوا بيرموها في الميه استطعنا الوصول إلى أهدافنا و أنا اخترت التقدم بين التفجير و التالي و وصلت إلى "بات يام" و المكان كله منوّر كأننا في عز النهار و كل حاجة باينة (يضيف البطل رامي في كتاب وحوش البحر صفحة 57 انه سبح هذه المسافة و هو يكاد يلتصق بقاع البحر لكي يتجنب الأضواء الكاشفة و استغرق ذلك حوالي عشرة دقائق مرت عليه كعشر ساعات و لكنها كانت على حد قوله .. أحلى لحظات في حياتي) دورت على المكان المناسب لوضع اللغم قرب غرفة الماكينات و بواسطة الخنجر بتاعي نظفت مساحة من الحشف و الطحالب و ثبت اللغم و ضبطت التوقيت على ساعتين و تأكدت أن كل شئ على ما يرام و في خلال عشر دقائق رحت راجع و ماشي ماشي ماشي لقيت فجاءة جنبي اتنين ماشيين .. تصورت للحظة أنهم من العدو و بعدين اكتشفت انهم عمرو البتانوني و علي أبو ريشة .. كان احساس جميل بالصحبة و الأمان و أخدنا بعض بالحضن و كملنا الطريق سوا.
في منتصف المسافة سمعنا أول انفجار و بعد 10 دقائق سمعنا الانفجار التاني و بعد شوية لقينا الهليكوبتر في السماء وانطلقت الشعلات المضيئة و لنشات بتجري لكن احنا كنا بعيد خلاص و وصلنا الشاطئ الأردني أمام فندق اسمه كورال بيتش و جنبه شاليه فيه نور خافت ..
كانت الليلة السابقة هي أول خميس من الشهر و حفلة أم كلثوم لسه مخلصة و الساعة أثنين و نصف الصبح و كانوا لسه حيناموا .. خبطنا عليهم و طلع لنا اثنين و لما لاقونا بلبسنا الأسود كانوا مذعورين و قلنا لهم ما تخافوش احنا مصريين .. واحد منهم كان مصري و اتضح انهم بيشتغلوا في الفندق و ان ده مكان المعيشة بتاع العمال .. عرفناهم بنفسنا و قلنا لهم عايزين نسلم أنفسنا للسلطات و كانوا طبعا سامعين صوت الانفجارات قبل كده فقالوا لنا هو أنتم؟ لازم نقوم بالواجب الأول و نحتفل بكم و بعدين تروحوا .. و حضر مدير الفندق و على وجه علامات السعادة بوجودنا .. و أعدت لنا وليمة فاخرة حول صينية منسف بالدجاج و الأرز بالخلطة و المكسرات و الزبيب .. و التف حولنا بعض عمال الفندق سعداء بوجودنا و جو من الفرحة و السرور يشيع في المكان .. و مع أولى ساعات الصباح انطلقنا إلى دار المخابرات الأردنية".
و يستكمل المرحوم عمرو البتانوني القصة و يقول: " في ميناء العقبة قبضت علينا المخابرات الأردنية فقد أدركت أن هذا الهجوم لابد أنه انطلق من أراضيها وكانت القصة التي ينبغي أن نذكرها في هذه الحالة لإعفاء الأردن من حرج استخدام أراضيها في تنفيذ هجوم عسكري دون علمها هي أننا ضفادع بشرية مصرية ألقتنا هليكوبتر قرب إيلات وكان من المفترض أن تعود لإلتقاطنا لكنها لم تفعل و أن لدينا توصية بتسليم انفسنا لأشقائنا في الأردن ، لكن المخابرات الأردنية لم تستسغ هذه القصة لأنها نفس القصة التي قدمها أبطال العملية الأولى في 15 نوفمبر فقاموا بإقتيادنا نحن الثلاثة بجفاء إلى أحد مقراتهم في عمان ويدعى "القلعة" حيث وجدنا الرقيب فتحي هناك .. لم نكن نصدق فالأردن دولة عربية أولاً و ثانياً تعرضت مثلنا للنكسة و تم إحتلال جزء من أرضها فكيف يعاملوننا بهذا الشكل.
وصلت هذه التطورات للسفارة المصرية في عمان عبر الضابط الأردني الذي تعاون معنا فقام الرائد إبراهيم الدخاخني من المخابرات المصرية بمخاطبة المخابرات الأردنية للإفراج عنا لكنهم أجابوا بأنهم لا يملكون أي معلومات عنا وأننا لسنا محتجزين لديهم !
كانت هذه معلومات في غاية القلق للسفارة المصرية التي شعرت بأن ثمة مخطط للتخلص منا .. وقتها كان الملك حسين في زيارة للقاهرة و أثناء اجتماع(*) الوفد الأردني مع الوفد المصري و الرئيس جمال عبد الناصر وصل نباء احتجازنا إلى الفريق محمد فوزي فقام بإبلاغ الرئيس عبدالناصر بذلك و هنا قام الرئيس بوقف الاجتماع للراحة و اصطحب الملك حسين ملك الأردن إلى غرفة جانبية وأبلغه أن المخابرات الأردنية تحتجز رجال الضفادع البشرية المصرية الذين نفذوا العملية في إيلات وأنه – أي الملك حسين – سيظل ضيفا على مصر إلى أن يتم الإفراج عنا ونعود إلى مصر.
*(تشير مصادر عديدة إلى أن هذه الواقعة حدثت أثناء انعقاد مؤتمر قمة للرؤساء و الملوك العرب بالقاهرة في فبراير و هذا غير صحيح حيث أن اجتماع القمة الوحيد الذي عقد عام 1970 كان في شهر سبتمبر و الذي توفى عقبه الرئيس جمال عبد الناصر بينما هذه الواقعة حدثت أثناء زيارة كان يقوم بها الملك حسين للقاهرة في فبراير 1970 لبحث سبل التعامل مع الفلسطينيين الذين كانوا يتمردون على السلطات الأردنية و تم عقب هذه الزيارة عقد اجتماع لدول المواجهة مع إسرائيل).
و على الفور أصدر الملك حسين تعليماته بالإفراج عنا فشعرنا بتغير المعاملة و فتحت لنا الأبواب وحصلنا على الطعام والملابس بعد أن قضينا 12 ساعة بملابس الضفادع البشرية وبملح البحر في قلعة المخابرات الأردنية وهي شاهقة الارتفاع حتى إن الثلج كان يغطي أجزاء منها وكل ذلك في برد فبراير القارص.
و تم الإفراج عنا بالفعل حيث تم تسليمنا لقائد العملية الرائد مصطفى طاهر و تم نقلنا يوم السبت 7 فبراير من عمان إلى بيروت و منها إلى القاهرة .. و في مطار عمان بينما نحن في صالة الإنتظار لحين إقلاع الطائرة إلى بيروت كانت الجرائد معروضة تنشر أخبار الهجوم المصري الناجح و سمعنا تعليقات الإشادة و التشجيع و تعليقات الفخر و الثناء من الجميع .. والله و عملوها الأبطال .. و الله و عملوها الشجعان .. فكان شعور طيب جميل يجعلنا نشعر أننا بالفعل أمة واحدة مصيرنا واحد .. و حصلنا بعد عودتنا على وسام النجمة العسكرية وكان وقتها أعلى وسام عسكري يُمنح للأحياء".
كان من نتيجة العملية غرق السفينة "بات يام" على الفور أما الألغام المثبتة على قاع السفينة "بات شيفع" فكانت لم تنفجر بعد و أدرك الإسرائيليون أن السفينة قد تكون ملغمة أيضاً فأسرعوا بتحريكها لتشحط نفسها في المياه الضحلة فلما انفجرت الألغام أصابتها بأضرار شديدة لكنها لم تغرقها.
و يستكمل الربان رامي عبد العزيز قصة الأحداث (كتاب أبطال من مصر) و يقول: "فوجئنا ان معاملة الأردنيين تغيرت و جات السفارة المصرية استلمتنا و طلعنا على مطار عمان و سافرنا من عمان على بيروت و من بيروت على القاهرة و في مطار بيروت كانت عناوين الجرائد هجوم مصري على ميناء إيلات و الضفادع البشرية المصرية و الناس كانت فرحانة و يقولوا .. والله عملوها الرجالة .. و في القاهرة استقبلنا وزير الحربية محمد فوزي و هو معروف أنه جاف و قاسي في تعاملاته مع الناس و ما بيضحكش .. سلم علينا و قال لنا حمد لله على السلامة و رجعنا اسكندرية و كان منتظرنا اللواء محمود فهمي في مكتبه الساعة الثالثة صباحاً علشان يستقبلنا و يسمع مننا و حاولنا الاختصار حتى لا نثقل عليه فقال لنا "هو أنا قلت لكم تختصروا ؟ أنا عاوز العملية بالتفصيل .." و جلسنا معه حتى الرابعة و النصف صباحاً بمكتبه نقص عليه ما حدث أنا شوية و عمرو شوية .. كان شخصية عظيمة".
أطلق اسم الشهيد فوزي البرقوقي على العملية تكريماً لذكراه، كما كانت سعادة الرئيس جمال عبد الناصر بنجاحها بالغة و وافق على منحهم النياشين العسكرية التي طلبها اللواء محمود فهمي لكل فرد .. أما بالنسبة للمكافأة المادية فكان من المعتاد صرف 500 جنيه بالتساوي على أفراد الطاقم الذي ينجح في اسقاط طائرة فذكر وزير الحربية أنه سيقوم بصرف نفس المكافأة لأفراد هذه العملية فقال له عبد الناصر لا بل يصرف 500 جنيه لكل ضابط و 200 لكل صف ضابط ..
كان لهذا الأمر وقع طيب و ساهم في رفع الروح المعنوية للجميع حتى أنه انتشرت بين الجنود و الضباط دعابة فحواها أن من كان منكم في ضائقة مالية فعليه أن يذهب إلى اللواء محمود فهمي لكي يكلفه بعملية "تفك له أزمته" ..
قامت الطائرات الإسرائيلية في اليوم التالي بالإغارة على كاسحة الألغام "المنيا" الراسية بميناء الغردقة و أغرقتها رغم استبسال قائدها المقدم وفيق خفاجة في الدفاع عنها .. إلا أن هذا الرد الإسرائيلي لم يمنع ارتفاع معنويات الجميع جيشاً و شعباً فخراً بإنجازات أبطالهم من القوات البحرية، و هرع موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي إلى ميناء إيلات عقب الحادث مباشرة للتحقيق في الأمر و تفقد الأوضاع و تم استجوابه بعد ذلك أمام الكنيست الإسرائيلي عن أسباب نجاح القوات الخاصة المصرية في اقتحام نفس الهدف مرتين في عمق إسرائيل و فشل وسائل الدفاع و الحماية بالميناء من الحيلولة دون تكرار ذلك و تعهد موشى ديان أمامهم على أنه سيعمل على تنفيذ كل ما يلزم لتجنب حدوث ذلك مرة أخرى .. و أضاف على حد قوله "بحيث لن يتمكن صرصار مصري من اختراق ميناء إيلات مرة أخرى"..
و لكن كان لوحوش البحر المصريين رأي أخر ..
التسجيل الكامل للعملية عن لسان المرحوم البطل عمرو البتانوني و البطل رامي عبد العزيز في برنامج دائرة الضوء قناة النهار و هو من ستة فيديوهات
رابط الفيديو الأول
https://www.youtube.com/watch?v=MdFYCtGCbtg
و يليه باقي الفيديوهات بالترتيب.