top of page

عملية الحفار الإسرائيلي "كنتينج Kenting"

أبيدجان / ساحل العاج - 8 مارس 1970

 

 

قائد العملية:                الرائد خليفة جودت – قائد لواء الوحدات الخاصة البحرية (بالإنابة)

المجموعات:                ملازم أول حسني الشراكي / الرقيب جاد عبد العال

                                  ملازم أول محمود سعد / رقيب أحمد المصري

                                  ملازم أول عادل السحراوي / رقيب حامد طه

                                  المجند مهندس أسامة مطاوع (لاجوس)

المخابرات الحربية:       رائد أنور عطية

المخابرات العامة:         السيد / كمال المحرزي – القاهرة

                                  السيد / منير المهدي – القاهرة

                                  السيد / أحمد هلال – داكار

                                  السيد / محمد نسيم – داكار/ أبيدجان/ لاجوس

بعد احتلال سيناء في يونيو 1967 كانت إسرائيل تسرق بترول مصر علانية و تستنزف حقول بلاعيم في خليج السويس ثم تمادت في غيها و قامت بإستئجار حفار عائم للتنقيب عن البترول في المنطقة لتنهب المزيد من ثرواتنا في استعراض لقوتها و إستهانة بمصر أمام العالم أجمع .. وردت تلك المعلومات إلى المخابرات العامة في شهر نوفمبر 1969 و بعد التأكد من صحتها و رصد خط سير الحفار تقرر على الفور تدميره و تم تكليف القوات البحرية بتنفيذ بالمهمة .. و نبدأ القصة من مذكرات اللواء محمود عبد الرحمن فهمي حيث يقول: " في أوائل شهر فبراير 1970 أستدعاني الفريق محمد فوزي وزير الحربية و قال لي أن هناك مهمة يكلفك بها الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً و هي تدمير الحفار الذي اشترته إسرائيل بصفة سرية و قبل أن يصل إلى خليج السويس و الأفضل أن يكون ذلك قبل أن يصل إلى البحر الأحمر .. ففرحت جداً بهذه المهمة و قلت له أرجو أن يطمئن السيد الرئيس أن الحفار لن يصل إلى البحر الأحمر أبداً بإذن الله.

توجهت إلى مكتب السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات حيث سلمني ملف عليه تأشيرة بخط يد الزعيم جمال عبد الناصر كان نصها كما يلي:

"تكلف المخابرات العامة ببحث الموضوع و إن صحت الأخبار تشكل لجنة تجتمع مع لجنة العمل اليومي ويشارك فيها عناصر من المخابرات الحربية بالإتفاق مع الفريق فوزي تشمل مجموعة من الضفادع البشرية و تعمل خطة للقضاء على هذا الحفار .. "

"جمال عبد الناصر"

ثم يلي ذلك تأشيرة نصها:

"تم إبلاغ كل من:   

أمين هويدي – شعراوي جمعة – الفريق محمد فوزي"

 

ثم تأشيرة أخيرة نصها:

 

" تم التأكد من قدوم الحفار إلى خليج السويس

كلف الفريق فوزي اللواء بحري محمود فهمي بمقابلة سامي شرف"

كان الملف يحتوي على كافة المعلومات المتاحة عن الحفار و يتضح منه أن إسرائيل قامت من خلال تأسيس لشركة إسرائيلية انجليزية أمريكية مشتركة أطلق عليها اسم "ميدبار" بإستئجار الحفار من شركة كندية و أن القاطرة الهولندية "جاكوب فون ايمز إيرو" تقوم بسحبه و أن أفراداً من البحرية الإسرائيلية تقوم على حراسته خلال رحلته.. كما أضاف أن الشركة الكندية تقوم حالياً بعرض نفس الحفار على مصر لشرائه و هو بالطبع عرض للتمويه و كسب الوقت حتى يصل الحفار إلى هدفه في خليج السويس.

اقترحت علي السيد سامي شرف أن نستمر في مفاوضات شراء الحفار مع الشركة الكندية حتى نبعد عنّا الشبهات وفي نفس الوقت نقوم بتكليف الضفادع البشرية من لواء الوحدات الخاصة بالمهمة كما أوضحت احتياجي لإمكانيات المخابرات العامة لتوصيل الأفراد بمعداتهم و ألغامهم إلى موقع التنفيذ فقال لي أن المخابرات العامة لديها تعليمات بوضع كافة إمكانياتها تحت تصرفك.

عدت مسرعاً إلى الإسكندرية سعيداً بهذه المهمة و استدعيت الرائد بحري خليفة جودت قائد اللواء بالإنابة الذي كان قد شفى من الكسر الذي أصاب ساقه (كان الرائد رضا حلمي ما زال في مأمورية في يوغوسلافيا)، و بدأنا في ترتيب احتياجات تنفيذ العملية و أولها رسم تفصيلي للحفار ثم خطة تدمير الحفار و عدد الألغام و موضع التلغيم و كمية المتفجرات اللازمة ثم خطة تأمين نقل الأفراد و المعدات و الألغام و أخيراً إستطلاع مكان الحفار و الظروف المحيطة به من حراسة و أنسب نقطة للإنطلاق.

استدعيت المهندس العقيد بحري سعد رجب لكي يقوم بعمل الرسم التفصيلي للحفار ثم بالتعاون مع العقيد بحري محمد رأفت يقوموا بتحديد خطة التدمير و انتهوا إلى أن تدمير هذا الحفار يحتاج إلى ستة ألغام زنة كل لغم خمسة عشرة كيلوجرام من مادة الهيكسانيت شديدة الإنفجار فأصدرت على الفور أوامري بسرعة تصنيعها في ورش القوات البحرية".

كانت مصر تسير في طريقين متوازيين الأول هو الطريق العسكري المخابراتي بتكليف السيد أمين هويدي مدير المخابرات العامة و اللواء عبد الرحمن فهمي قائد القوات البحرية بإعتراض و تدمير الحفار و في نفس الوقت طرقت مصر أبواب الحل الدبلوماسي حيث تقدمت برسائل إحتجاج إلى بريطانيا و الولايات المتحدة إلا أنه لم تبدر من الطرفين أي استجابة و تكررت المحاولة بتصريح رسمي على لسان المتحدث بإسم وزارة الخارجية المصرية بأن مصر ستتخذ كافة الإجراءات و التدابير لحماية مصادرها الطبيعية في سيناء .. و لكن ذهبت تلك الجهود هباءً و أغلق ملف المساعي الدبلوماسية.

و يقول السيد أمين هويدي في كتابه (الفرص الضائعة صفحة 155) "اقترحت على الرئيس عبد الناصر منعاً لأي تعقيدات سياسية كنا ننوء تحت ثقلها أن تقوم المخابرات العامة بالتعامل مع الحفار بطريقتها الخاصة و وافق الرئيس .. يعني كانت المبادرة منا .. و تم تشكيل جماعة متجولة لها مطلق الحرية في التحرك على الساحل الأفريقي الغربي للحصول على المعلومات الخاصة بتحركات الحفار".

و عن تكليف الملازم أول محمود سعد بالمهمة يقول: " بعد نجاح الهجوم الثاني على ميناء إيلات يوم 5 فبراير كنت قد يأست من توفر فرصة لإشتراكي في عملية جديدة حتى أنني فكرت جدياً في الإستقالة إلا أنني التقيت بالرائد خليفة جودت الذي طلب مني أن أتحلي بالصبر و أن فرصتي قادمة .. و بعد يومين استدعاني الرائد جودت و ذهبنا للقاء اللواء محمود فهمي قائد القوات البحرية الذي أطلعني على عملية تفجير الحفار و ناقش معي تفاصيلها و اختيار الأفراد للتنفيذ وفي اليوم التالي استلمت معدات العملية من ملابس و أدوات الغطس و من ألغام و قمت بنقلها إلى مقر المخابرات الحربية بالقاهرة ثم عدت إلى الإسكندرية .. بعد أربعة ايام ذهبت مع الأفراد إلى القاهرة حيث أقمنا بمنزل للمخابرات العامة في الحلمية في انتظار توفر معلومات عن مكان الحفار .. و بعد ثلاثة أيام – في يوم الاثنين 16 فبراير الموافق لأول أيام عيد الأضحى – تم تحديد مكان الحفار في ميناء داكار بالسنغال فتقرر السفر يوم الأربعاء 18 فبراير لتنفيذ العملية و جأنا منير المهدي ضابط المخابرات الذي اصطحبنا لمقابلة السيد أمين هويدي رئيس المخابرات العامة في منزله حيث رحب بنا وتمنى لنا التوفيق و النجاح و العودة بسلام، ثم ذهبنا لتناول عشاء العيد من الكشري الفاخر في حي الحسين".

و يذكر السيد أمين هويدي في مذكراته أنه كان قد التقى بالرئيس جمال عبد الناصر ليطلعه على تلك التطورات واستعرض معه لمدة 20 دقيقة كافة المعلومات عن الحفار و الخطط الموضوعة للتعامل معه .. فقال له الرئيس "على بركة الله .. بلغ الرجالة أن كرامة البلد بين أيديهم ..".

نعود إلى مذكرات اللواء محمود فهمي حيث يقول: "أرسلت الرائد خليفة جودت إلى ادارة المخابرات العامة للإتفاق على التفاصيل و كانت الخطة أن يسافر الرائد خليفة جودت قائد العملية مع السيد أحمد هلال من المخابرات العامة عن طريق باريس بفرنسا و تليهم المجموعة الأولى و هي الرائد أنور عطية من المخابرات الحربية مع ملازم أول حسني الشراكي وملازم أول محمود سعد و الرقيب أحمد المصري عن طريق فرانكفورت بألمانيا و معهم 4 ألغام و معدات و بدل الغطس وأخيراً المجموعة الثانية و هي ملازم أول عادل السحرواي مع الرقيب حامد طه و الرقيب جاد عبد العال عن طريق أديس أبابا بأثيوبيا و معهم لغمين و معدات و بدل الغطس".

وصل الحفار إلى ميناء داكار بساحل العاج يوم الاثنين 16 فبراير و في السادسة من صباح اليوم التالي الثلاثاء 17 فبراير كان محمد نسيم رجل المخابرات على متن طائرة اير فرانس المتجهة إلى باريس و منها إلى داكار .. و قام فور وصوله بإستطلاع الموقع و لاحظ أن الحفار يرسو بالقرب من قاعدة عسكرية فرنسية فلم يرتاح للأمر .. و عندما التقى بالرائد خليفة جودت عقب وصوله صباح الخميس 19 فبراير نقل اليه مخاوفه إلا أن الرائد خليفة أصر على التنفيذ و ذهب لمقابلة نجيب قدري السفير المصري للسنغال حيث فوجئ برفضه للتعاون معهم بل على العكس أوصى بألا تتم العملية بحجة أن العلاقات بين مصر و السنغال بدأت في التحسن .. لم يلق الرائد خليفة جودت بالاً إلى اعتراض السفير و قرر نقل مركز العملية إلى مكتب شركة النصر للتصدير و الإستيراد حيث ذهب للقاء مندوب المخابرات العامة هناك المقدم محمد عبد السلام المحجوب و بعد الإتفاق على التفاصيل ثم إستطلاع المكان تقرر تنفيذ العملية مساء اليوم التالي الجمعة 20 فبراير.

في هذه الأثناء كانت المجموعات قد وصلت بمعداتهم بسلام ظهر نفس اليوم و ذهبوا إلى فندقهم حيث التقوا بقائدهم خليفة جودت الذي أطلعهم على تطورات الموقف و بينما كانوا بالفندق المطل على الميناء يعدون الألغام و يتم تلقينهم أدوارهم فوجئ الجميع بالقاطرة تطلق صافرتها و هي تسحب خلفها الحفار لتغادر الميناء في نحو الخامسة من بعد ظهر يوم الخميس 19 فبراير".

تمت رحلة العودة من داكار في أعقاب حادث إرهابي وقع منتصف يوم السبت 21 فبراير أسفر عن انفجار طائرة سويسرية بعد إقلاعها من مطار زيوريخ بسويسرا متجهة إلى تل أبيب .. و عن رحلة عودة المجموعة الأولى يذكر الملازم أول محمود سعد ما يلي: "خلال رحلة العودة من داكار توقفنا في مطار فرانكفورت (أنور عطية و حسني الشراكي و أحمد المصري وأنا) كان موعد رحلتنا التالية إلى القاهرة بعد 20 ساعة و كانت شركة الطيران قد قامت بحجز فندق لنا للمبيت و توفير سيارة للإنتقال .. أثناء خروجنا من المطار متوجهين إلى الفندق و كل واحد منا يحمل مخلة بها الألغام و المعدات قامت سيدة عجوز بالإشارة علينا و الصراخ و هي تقول .. إرهابيين .. إرهابيين .. تجمع الناس حولنا و حضر رجال الشرطة و قاموا بالفصل بيننا و بين الجمهور و حضر قائد شرطة المطار فقال له الرائد أنور عطية أنا دبلوماسي و هؤلاء معي و معهم حقائب دبلوماسية و أطلب الرحيل على أول طائرة حتى لو كانت متجهة إلى إسرائيل.

قام قائد الشرطة بفتح كافيتريا صغيرة و أودعنا بها و قام بتعيين حراسة حولنا و تم حجز أماكن لنا على خطوط شركة TWA المتجهة إلى أثينا لنستكمل منها الرحلة إلى القاهرة .. مر كل شئ بسلام حتى جاء موعد رحلتنا و صعدنا إلى الطائرة وجلسنا في مقاعدنا .. و بعد أن ظننا أن الأزمة انتهت طُلب فجاءة من جميع الركاب النزول من الطائرة لكي يقوم كل راكب بالتعرف على حقائبه و تفتيش حقائب اليد فنزلنا و كل واحد منا يحمل المخلة على كتفه و في داخلها اللغم و ظللنا نتقهقر في طابور التفتيش حتى أوشك الدور أن يصيبنا و إذا بالمفتشين يصيحون في باقي طابور الركاب أن يصعدوا إلى الطائرة فكل شئ يبدو على ما يرام".

نعود إلى مذكرات اللواء محمود فهمي حيث يقول: "عاد الجميع إلى الإسكندرية و الإحباط يملؤهم و جاءني خليفة جودت والدموع تكاد تتفجر من عينيه و هو يحدثني بما حدث، و كيف كانوا قاب قوسين من تحقيق مهمتهم .. و جلسنا و أمامنا خريطة نتدارس طريق الحفار و احتمالات وجهته التالية فلا بد لهم من وقفة أو وقفتين في الطريق للتموين و الراحة بشرط أن يكون ذلك في دولة نستطيع دخولها حيث أن بلاد مثل أنجولا و جنوب أفريقيا و موزمبيق لن يمكننا دخولها إذا لجأ الحفار اليها .. و انتظرنا عشرة أيام حتى جاءنا الخبر (يوم الاثنين 2 مارس 1970) أن الحفار لجأ إلى ميناء أبيدجان في ساحل العاج.

018001.png

انطلقت المجموعات فوراً إلى القاهرة و توجهت أنا لمقابلة السيد أمين هويدي رئيس المخابرات العامة حيث اتفقنا على سرعة إرسال الأفراد إلى أبيدجان كي لا تفلت الفرصة مننا مرة أخرى، و في الثامنة و النصف من مساء الجمعة 6 مارس 1970 غادرت المجموعة الأولى و معهم خليفة جودت و أربعة ألغام ومعدات الغطس إلى باريس حيث وصلوا في الثانية من صباح السبت 7 مارس و منها إلى أبيدجان حيث وصلوا في الثامنة و النصف من صباح نفس اليوم (تبعتهم المجموعة الثانية في اليوم التالي عن طريق أديس أبابا و معهم لغمين) و كان في استقبالهم الرائد أنور عطية من المخابرات الحربية الذي أنهى إحراءات دخولهم و توجه الجميع إلى الفندق بينما توجه خليفة جودت و محمد نسيم – الذي كان قد سبقهم بالوصول منذ يوم الأربعاء 4 مارس للقيام بالإستطلاع – لمقابلة السفير المصري

إحسان طلعت الذي لم يتردد للحظة واحدة عن الموافقة على تنفيذ العملية و وضع امكانيات السفارة تحت تصرفهم بل أصر أن يكون مشاركاً في التنفيذ.

عاد خليفة جودت و محمد نسيم إلى الفندق حيث تقابلوا مع رجال المجموعة الأولى و أخرج محمد نسيم خريطة للميناء والمناطق المحيطة موضحاً وصف للميناء و مكان الحفار و معلومات عن دخول و خروج السفن من الميناء و حالة المد والجزر و نقطة الإنزال المقترحة و ذلك حسب الإستطلاع الذي قام به نهاراً قبل وصولهم و كانت المعلومات المتوفرة أن الحفار جاهز لمواصلة رحلته و أن المجموعة الأولى جاهزة و مكونة من ثلاثة أفراد و معهم أربعة ألغام بينما المجموعة الثانية ما زالت في الطريق عبر أديس ابابا مكونة من ثلاثة أفراد و معهم لغمين و ينتظر وصولهم صباح اليوم التالي الأحد 8 مارس".

يذكر الملازم أول محمود سعد أن الموقف كان حرج جداً فمن الصعب التنبؤ ببقاء الحفار ليلة أخرى في ميناء أبيدجان من عدمه بينما هو موجود في متناول يدهم الليلة، و كانت المجموعة لم تنال أي قسط من الراحة منذ أن غادرت القاهرة في اليوم السابق فتوجه الرائد خليفة جودت اليهم بالسؤال مباشرة "تعبانين؟" فكان الرد "لأ مش تعبانين يا فندم" .. "يعني نشتغل الليلة دي؟" فكان الرد "أيوه نشتغل يا فندم" .. أعترض محمد نسيم على ذلك و قال أن التعديل في الخطة يستلزم موافقة القاهرة إلا أن الرائد خليفة جودت قائد العملية حسم الأمر و قرر التنفيذ في نفس الليلة بالمجموعة الأولى فقط دون انتظار للمجموعة الثانية و لكن برزت مشكلة و هي أن الحد الأدنى لعدد الألغام المطلوبة لتنفيذ العملية بنجاح هو أربعة ألغام بينما عدد الرجال من أبطال الضفادع البشرية ثلاثة فقرر الرائد خليفة أن يشارك معهم و يحمل اللغم الرابع واعترض على ذلك الملازم أول محمود سعد نظراً لابتعاد الرائد خليفة عن التدريب لفترة طويلة و تطوع هو بحمل لغمين.

صادف وصول المجموعة إلى أبيدجان زيارة لبعض رواد الفضاء الأمريكيين للبلاد و كانت مظاهر الاحتفال بوصولهم تظهر بوضوح في أنحاء المدينة من زينات و أعلام و تواجد مكثف لرجال الأمن و منهم عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المكلفين بحراسة رواد الفضاء بالإضافة إلى عملاء الموساد المكلفين بحراسة الحفار مع وجود أعداد ملحوظة من رجال الإعلام و المصورين و كان من المقرر إقامة حفل استقبال ترحيباً برواد الفضاء في نفس الليلة في القصر الرئاسي الذي يقع بالقرب من الميناء فكانت أضواء الإحتفال تضئ ظلام الليل حول الميناء و حرص السفير المصري على حضور الحفل مع زوجته فكان لوجوده دور هام في إبعاد الشبهات عنه و عن مصر فيما بعد، كما يضيف الرقيب أحمد المصري أنهم حرصوا عقب وصولهم إلى الفندق على أن يقوموا بالإستعلام من موظفي الإستقبال عن برنامج الإحتفال برواد الفضاء و أفضل الأماكن لقضاء السهرة بالمدينة في تلك الليلة الصاخبة.

في العاشرة مساء توجه الرائد خليفة جودت و معه محمد نسيم لإستطلاع الميناء مرة أخرى و هو عبارة عن قناة طبيعية تنتهي بخليج حيث توجد منشأت الميناء و الأرصفة على الجانب الأيمن للخليج بينما الجانب الأيسر به قرى للمواطنين بين غابات كثيفة و تم تحديد نقطة الإنزال بجوار مبنى لكنيسة في مواجهة الميناء و على مسافة نحو 800 متر من الحفار، و يذكر أن القناة الطبيعية كانت تستخدم لنقل جذوع الأشجار من أماكن قطعها فتلقى الجذوع في مجرى النهر ليحملها التيار إلى الخليج حيث يتم تجميعها و تخزينها توطئة لشحنها.

قام السفير المصري بإخلاء مبنى السفارة من العاملين بحجة منحهم فرصة للإشتراك في احتفالات المدينة بزيارة رواد الفضاء، فلما عاد مع زوجته من حفل الاستقبال لم يكن بمبنى السفارة أحد سواهم .. و انضم اليهم في الحادية عشرة و النصف مساءً الرائد خليفة جودت و محمد نسيم و الرائد أنور عطية و تم إستدعاء الأفراد من الفندق و البدء في تجهيز الألغام و تم ضبط توقيت انفجار الألغام بعد ثلاث ساعات و تجهيز معدات الغطس.

018003.png

قام الأفراد بلبس بدل الغطس و فوقها الملابس المدنية .. و في الثالثة و النصف من فجر يوم الأحد 8 مارس انطلق الجميع بسيارة السفارة يقودها السفير البطل بنفسه ليصلوا إلى نقطة الإنزال في الرابعة بينما انتظر الرائد أنور عطية في مبنى السفارة .. وفي خلال عشرة دقائق كان رجال الضفادع البشرية في الماء بينما انتظرهم على الشاطئ محمد نسيم وخليفة جودت لتوجيههم و التقاطهم عند عودتهم .. و يذكر الملازم أول محمود سعد أنه أثناء الاستعداد للغطس لاحظ أن بعض جذوع الأشجار الطافية فوق سطح الماء على بعد تبدو غريبة كما لو كانت تتحرك فلما ذكر ذلك للرائد خليفة نهره قائلاً له هذا ليس وقت المزاح ..

لم يلتفت الملازم أول محمود سعد للأمر و استعد للنزول إلى الماء مع زملائه و بدأو طريقهم سباحة نحو الحفار الذي كانت تحيط به الكشافات القوية من كل جانب حتى اقتربوا منه و هنا غطس الجميع تحت سطح الماء يقودهم الملازم أول محمود سعد مستعيناً ببوصلة اليد ثم الرقيب أحمد المصري ثم الملازم أول حسني الشراكي و كل منهم متصل بالأخر بحبل

الاتصال فلما وصلوا الى الحفار نحو الخامسة صباحاً قرر الملازم أول محمود سعد نزع فتيل التفجير من الألغام الأربعة في نفس اللحظة حتى يضمن وقوع الانفجارات في نفس الوقت بقدر الإمكان ثم انفصل عنهم الملازم أول حسني الشراكي ليتجه نحو مكان تثبيت اللغم المحدد له بينما اتجه الملازم أول محمود سعد و معه الرقيب أحمد المصري نحو مواقع تثبيت الألغام المحددة لهم .. اتجه محمود سعد لتثبيت اللغمين بينما اتجه أحمد المصري لتثبيت لغمه في موقع أعمق قليلاً .. و رغم حساسية الموقف و جديته إلا أن محمود سعد يذكر موقف طريف وقع خلال تلك الدقائق المحفوفة بالخطر و الترقب فيقول أنه عندما انتهى أحمد المصري من مهمته و بدء في الصعود لاحظ الملازم أول محمود سعد ابتسامة عريضة على وجهه فأنتابه القلق أن تكون قد أصابته لوثة من احتمال تعرضه للتسمم الأكسجيني بسبب الغطس العميق فأمره بالصعود فوراً إلى سطح الماء لإستنشاق الهواء الطبيعي فلما وصلا و نزع قناع الغطس عنه وجد الإبتسامة ما زالت تملئ وجهه بل يكاد يضحك من السعادة .. فسأله عما به فأجابه و هو لا يزال يبتسم سعيداً .. "أخيراً ربنا كرمنا و عملنا عملية".

عاد الأبطال من نفس الطريق ليلتقطهم خليفة جودت و محمد نسيم و يسرع الجميع بالعودة إلى السيارة حيث كان السفير ينتظرهم ليصل بهم إلى السفارة في السادسة و عشر دقائق و في غمرة الأحداث و ظلام الليل لم يستطع أحمد المصري العثور على سرواله فتم توفير سروال آخر له في منزل السفير .. و في السيارة أعاد محمود سعد على قائده خليفة جودت ذكر ملاحظته عن جذوع الأشجار التي كان يبدو له أنها تتحرك فرد عليه قائلاً "دي مش أشجار يا محمود .. دول كانوا تماسيح !!".

 

انطلق الأبطال من السفارة إلى الفندق و منه إلى المطار بينما عاد محمد نسيم إلى الفندق حيث قام بالاستحمام سريعاً ليزيل عن نفسه عناء الليلة ثم ارتدى ملابسه و ظل جالساً في غرفته منتظراً و مترقباً .. و مرت الدقائق ثقيلة حتى دوى صوت أول انفجار و تلاه في خلال دقائق الثاني ثم الثالث و الرابع .. و هنا أسرع بمغادرة الفندق و انطلق نحو المطار.

 

و نعود إلى مذكرات اللواء محمود فهمي الذي يقول: "و بعد استراحة قصيرة غادر الأفراد مبنى السفارة بسيارات أجرة متجهين إلى الفندق كما لو كانوا قادمين من احتفالات استقبال رواد الفضاء و جمعوا متاعهم و انطلقوا نحو المطار ليصلوا هناك في الثامنة صباحاً حيث كان سكرتير السفارة في انتظارهم بجوازات السفر و التذاكر .. و قبل عبورهم لنقطة الجوازات وصل محمد نسيم و أبلغهم بإنفجار الألغام الأربعة واحد بعد الأخر في نحو الثامنة صباجاً و أن أصوات الانفجارات سمعت من كل مكان .. أقلعت طائرتهم في العاشرة صباحاً متجهة إلى باريس .. و أغلق المطار عقب إقلاع رحلتهم مباشرة فكانت طائرتهم أخر طائرة تغادر المطار قبل إغلاقه.

 

كانت المجموعة الثانية قد وصلت في الساعة الرابعة من فجر ذات اليوم و استقبلهم مندوب السفارة داخل المطار و أخذ منهم معداتهم و الألغام و قام بترتيب عودتهم على نفس الطائرة التي حضروا بها عبر أديس أبابا .. بينما وصلت المجموعة الأولى و معهم الرائد خليفة جودت إلى القاهرة في الخامسة من صباح الاثنين 9 مارس و استقبلته في مكتبي مساء نفس اليوم ..".

16003_edited.jpg

و هكذا انتهت مذكرات الفريق محمود فهمي عن عملية الحفار .. و من باريس عادوا على متن طائرة خاصة أعدها لهم حافظ اسماعيل سفير مصر في باريس و وصل الأبطال إلى مصر في الخامسة من صباح يوم الإثنين بعد أن قضوا ثلاثة أيام متواصلة بدون أي قسط من النوم و استقبلهم السيد أمين هويدي و السيد شعرواي جمعة و السيد سامي شرف و كانت المكافأة المالية 500 جنيه للمجموعة بواقع 125 جنيه لكل فرد .. أما التكريم بمنحهم وسام النجمة العسكرية فقد تأجل بسبب أحداث التمرد المشهورة في السودان التي وقعت بجزيرة أبا في نهاية شهر مارس و استمر تأجيل التنفيذ حتى توفى الرئيس جمال عبد الناصر فكان الرئيس أنور السادات هو الذي وقع البراءة بمنحهم الوسام في نهاية 1970.

لم تستطع الشرطة تحديد هوية منفذي العملية .. و بإستمرار البحث اكتشف المحققون وجود السروال المفقود للرقيب أحمد المصري .. و عند سؤاله، أنكر سفير مصر بشدة علاقة بلاده بالحادث و أضاف أنه لا بد أن تكون إسرائيل هي التي قامت بتفجير الحفار لكي تحصل على قيمة التأمين و أنهم دسوا هذا السروال لإلقاء التهمة على مصر .. إلا أن الجميع كانوا يعلمون أن مصر هي التي نفذت العملية و بذلك وصلت الرسالة للبعيد قبل القريب و للعدو قبل الصديق أن كرامة مصر لن تمس و أننا قادرون على أن تصل أيدينا إلى أي مكان .. و قادرون على أن نضرب بقوة.

تطوع البطل السفير إحسان طلعت من تلقاء نفسه لخدمة العملية منذ اللحظة الأولى و بدون أي تعليمات من أحد و لم يتوان عن تجنيد كل امكانيات السفارة من أجل إنجاح العملية و كان هو شخصياً قائد السيارة التي أقلت الضفادع البشرية لنقطة الإنزال ثم انتظرهم ليلتقطهم و يعود بهم إلى مبنى السفارة ثم يتابع انتقالهم إلى المطار، إلا أنه لم يتم تكريمه إلا بعد مرور خمس سنوات و بفضل متابعة الفريق محمود فهمي للأمر و إلحاحه في ذلك.

 

بعد نجاح التفجير قامت القاطرة بسحب الحفار إلى ميناء أكرا بغانا بغرض إصلاحه بالحوض الجاف بالميناء هناك .. يضيف الملازم محمود سعد أنه عقب عودتهم من العملية كان هناك شبه إسترخاء حيث لم يكن أحد يتوقع عملية جديدة تالية إلا أنه بعد حوالي 20 يوم عاد رضا حلمي مع خليفة جودت و استدعاني أنا و الشراكي و وبخنا لأننا مهملين في التدريب فقلت له نحن جاهزون فطلب منا الإستعداد للإشتراك في طابور و كان الشراكي يعاني من نوبة برد فلم يستطع استكمال الطابور بينما تفوقت أنا بوضوح على كل المجاميع المشاركة و كان ذلك مبعث لسرور الرائد خليفة الذي قال لي .. روَّح وخليك في البيت .. في الثامنة مساء تقابلت مع خليفة في منزله بسموحة ثم ذهبنا للقاء اللواء محمود فهمي قائد القوات البحرية.

16004.jpg

بعد الترحيب بنا سأل اللواء محمود الرائد خليفة "هل شرحت له المهمة؟" فرد عليه بالنفي .. فقال لي اللواء محمود فهمي أن المخابرات العامة استأجرت سفينة الصيد "رأس بناس" من شركة مصايد أعالي البحار و سيتم توجيهها إلى لاجوس بنيجيريا و ستقوم القوات البحرية بتجهيز طاقم لقيادة السفينة و سيكون على متنها ثلاثة مجموعات من الضفادع البشرية و هم ملازم أول عبد الرؤوف سالم مع رقيب احمد المصري و ملازم أول محمود سعد مع الرقيب حامد طه و ملازم أول عادل السحراوي مع الرقيب جاد عبد العال وأخيراً المجند مهندس أسامة مطاوع للدعم الفني .. ثم تابع اللواء محمود فهمي حديثه و قال أنه عند إتمام إصلاح الحفار سوف تتجه بكم السفينة "رأس بناس" من لاجوس بنيجيريا إلى موقع قرب أكرا بغانا حيث سيتم إنزال زوارق الزودياك لنقل الضفادع إلى الحفار لتدميره للمرة الثانية .. و بالفعل قام المجند مهندس أسامة مطاوع بتجهيز 3 صناديق تحتوي على المعدات الخاصة بالضفادع و زورقين زودياك بمحرك و كامل الاحتياجات وتسليمهم إلى المخابرات العامة و تم شحنهم على نفس الطائرة معنا إلى لاجوس بنيجيريا كما تم إسناد الإشراف المباشر على المجموعات إلى الملازم أول محمود سعد نظراً لسابق خبرته المماثلة في التعامل مع الحفار و إسناد الإشراف الفني للمجند مهندس أسامة مطاوع.

(أبطال الحفار - الوقوف من اليمين حسني الشراكي،  خليفة جودت، محمود سعد ثم أحمد المصري جالساً).

سافر الرائد خليفة جودت قائد العملية مع محمد نسيم ممثل المخابرات إلى لاجوس عن طريق باريس و في اليوم التالي لحقت بهم المجموعات و معهم ضابط لاسلكي و الطاقم الذي سيعمل على السفينة "رأس بناس" و كان قد تم إنزال طاقم السفينة الأصلي و تسكينهم في فندق فيدرال بينما تم تسكين الرائد خليفة جودت و محمد نسيم مع أفراد المجموعات في فندق أوبيم ..

 

تواجد الجميع في لاجوس لعدة أسابيع كانت السفينة "رأس بناس" تباشر خلالها القيام برحلات صيد عادية و بعد مرور حوالي شهر تم الإعلان عن فشل إصلاح الحفار .. و تم بيع حطامه كخردة .. و عاد الجميع إلى مصر ..  و انتهى بذلك الفصل الأخير من قصة الحفار.

(تذكر بعض المصادر أن تصوير فيلم عماشة في الأدغال تم بالإتفاق مع المخابرات العامة للتمويه على عملية الحفار و هذا أمر عار تماماً من الصحة).

يذكر أنه بعد مرور عشرات السنوات و في أثناء قيام المهندس أسامة مطاوع بمهمة عمل في ميناء أكرا بغانا فوجئ برؤيته لبقايا الحفار ما زالت ملقاة بإهمال .. منزوية في ركن بعيد من أركان الميناء ..

 

 

018006.png
018007.jpg
bottom of page