"برقبتي يا ريس .. كل شئ على أتم استعداد"
المشير عبد الحكيم عامر(*) في رده على سؤال من الرئيس جمال عبد الناصر بخصوص استعداد القوات المسلحة لمواجهة الحرب – اجتماع اللجنة التنفيذية 23 مايو 1967 فور الاعلان عن إغلاق مضيق تيران في حضور صدقي سليمان رئيس الوزراء و أنور السادات و زكريا محيي الدين و حسين الشافعي و علي صبري و أخرون، و قد وافق الحاضرون على القرار بالإجماع مع اعتراض رئيس الوزراء صدقي سليمان (كتاب الرئيس أنور السادات – البحث عن الذات – الفصل السادس/13 و مصادر أخرى عديدة).
*(أجبر جمال عبد الناصر الرئيس محمد نجيب على ترقية عبد الحكيم عامر عام 1953 من رتبة صاغ/ رائد إلى رتبة لواء ليصبح القائد العام للقوات المسلحة و هو لم يبلغ من العمر 34 عاماً فتقدم قائد سلاح الطيران حينئذاً اللواء حسن محمود، بإستقالته من القوات الجوية، ورفض أن يستمر في منصبه احتراماً لرتبة اللواء و حل محله الطيار صدقي محمود الذي ظل قابعاً في مركزه كقائد لسلاح الطيران حتى يونيو 1967 فكان القائد الوحيد في التاريخ العسكري الذي تم تدمير سلاح الجو في عهده .. مرتين).
كانت الأمور طبيعية في مصر عموماً و في القوات المسلحة خصوصاً و التي كانت تستضيف الفيلد مارشال مونتجومري في ذكرى مرور 25 عام على معركة العلمين حيث قام يوم السبت 13 مايو 1967 بإلقاء محاضرة في أكاديمية ناصر العسكرية، إلا أن الصورة تغيرت تماماً صباح اليوم التالي الأحد 14 مايو حيث أصدر المشير عبد الحكيم عامر نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة أوامره برفع درجة استعداد القوات من "دائم" إلى "كامل" و في اليوم التالي تم إعلان حالة الطوارئ و أصدر المشير أوامره بتعبئة القوات و حشدها في سيناء في خلال 72 ساعة.
أثار هذا الأمر دهشة القادة فمثل هذا القرار يصدر من القائد العام و ليس من نائبه، و سرعان ما تبين أن القرار أتخذ بناء على معلومات من عدة مصادر تفيد بأن إسرائيل تحشد قواتها على الجبهة السورية (من اللواء أحمد سويدان رئيس أركان الجيش السوري إلى الفريق أول محمد فوزي رئيس أركان الجيش المصري/ من رئيس البرلمان السوفيتي و نائب وزير الخارجية إلى محمد أنور السادات رئيس مجلس الأمة/ من السفير السوفيتي في مصر إلى وكيل وزارة الخارجية المصرية أحمد حسن الفقي).
و من المثير للدهشة (و التساؤل) أنه سبق للاتحاد السوفيتي في أوائل عام 1960 تسريب معلومات مماثلة لمصر عن طريق المخابرات السوفيتية تفيد بقرب وقوع تحرش إسرائيلي بسورية و لما كان ذلك أثناء فترة قيام الجمهورية العربية المتحدة والوحدة مع سورية لذا أعلنت مصر حالة الطوارئ و قامت فرقة مدرعة و فرقة مشاة بعبور قناة السويس ليلة 17/16 فبراير في صمت تام و بدون أي ضجة إعلامية لتستيقظ إسرائيل صباح 17 فبراير و تجد هذه القوات على حدودها الجنوبية فتسارع بإعلان حالة الطوارئ القصوى (العملية المكنسة أو روتم Rotem - مذكرات اسحاق رابين/ صفحة 55-56)، و بعد اتصال من الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور للرئيس عبد الناصر وصل فريق أمني من الولايات المتحدة يوم 26 فبراير و معه صور جوية تؤكد عدم صحة المعلومات السوفيتية و عدم وجود حشود إسرائيلية على الحدود السورية و انتهت الأزمة عند هذا الحد (كانت تلك ذروة المواجهات العسكرية بين الدولتين فيما بين 1956 و 1967 و هي تتشابه مظهرياً مع بدايات حرب يونيو 1967 مع الفارق أنه لم يصاحبها أي مواكب عسكرية في مصر أو تغطية إعلامية أو شحن معنوي).
نعود إلى أحداث مايو 1967 حيث سافر رئيس الأركان محمد فوزي في ذات اليوم – 14 مايو – إلى سورية لاستطلاع الأمر فتبين له – مرة أخرى و بوضوح تام – عدم صحة المعلومات السوفيتية إلا أن المشير عامر لم يتراجع رغم ذلك عن قرار الحشد ورغم غياب أي خطة هجومية حيث أن كل الخطط الموضوعة سابقاً كانت دفاعية أساساً (و لا غرابة في هذا مع وجود ثلث القوات البرية المصرية في اليمن)، و كانت آخر خطة قد تم التصديق عليها في ديسمبر 1966 هي الخطة "قاهر" و التي كانت هيئة العمليات قد أعدت تقرير بشأنها يحذر من أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل بسبب عدم اكتمال الصفوف و ضعف القدرات القتالية للتشكيلات و الوحدات المتبقية لنقص الأفراد والمعدات والتجهيزات كما كانت أنظمة رادارات الدفاع الجوي لا تغطي الارتفاع فيما دون 500 متر.
توالت في الأيام التالية التعديلات على الخطة "قاهر" حتى ضاع محتواها فترى وحدات عسكرية ترسل في مهام معينة و لا تلبث بعد أن استقرت في مواقعها أن تكلف بالذهاب إلي مواقع أخرى و قد تكرر ذلك لبعض الوحدات لأكثر من مرة فتراها تقطع عشرات بل مئات الكيلومترات ذهاباً و إياباً فتستهلك وقودها هباءً و تنهك أفرادها بلا طائل و وحدات تستقطع منها وحدات أصغر لتكلف بمهام أخرى و تم إستدعاء قوات الاحتياط (يوم الأحد 21 مايو) لتصل بملابسها المدنية مشحونة في القطارات كالدواب وتفاجئ عند وصولها منهكة بتوزيعها بدون خطة محددة و في غياب لأية ترتيبات لوجستية من مأكل و إقامة و انتقال كما تم تغيير 12 قائد فرقة و لواء و إستحداث 15 قيادة جديدة خلال فترة الحشد (الفرص الضائعة – أمين هويدي/ صفحة 78) و كان الأمر إجمالاً مهزلة في التنظيم و الحشد، ثم تصاعدت الأمور يوم الثلاثاء 16 مايو حين أرسل الرئيس إلى المشير عامر رسالة لإبلاغها إلى قائد قوات الطوارئ الدولية يطلب "سحب قوات الأمم المتحدة من نقاط الحدود المصرية" (و هو ما أعلنته جرائد اليوم التالي – انظر ملحق الصور) فقام المشير بتعديل الخطاب في النسخة الإنجليزية ليصبح "سحب كل قوات الأمم المتحدة" فلما اعترض الرئيس كان الخطاب قد وصل إلى المرسل اليه(*).. تلى ذلك يوم الاثنين 22 مايو الإعلان عن إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية في الاجتماع الذي عقد بمركز القيادة المتقدمة في قاعدة أبو صوير الجوية بإصرار من عبد الحكيم عامر الذي كان يزأر طوال الاجتماع أن الجيش جاهز للمعركة فكانت تلك نقطة تحول هامة في تطور الأزمة التي تحولت عبر حملة إعلامية كبيرة من "تهديد إسرائيل لسورية" إلى "قيام مصر بإعاقة حرية الملاحة في الممرات الدولية" ليتصدر هذا العنوان الجديد صحف العالم أجمع.
*(سبق للمشير عامر أن تقدم للرئيس عبد الناصر بإقتراح سحب كل قوات الأمم المتحدة في ديسمبر 1966 وذلك أثر قيام حملة إعلامية سعودية/أردنية تهاجم عبد الناصر و تتهمه بالإختباء خلف قوات الأمم المتحدة لجبنه عن التصدي لإسرائيل و ذلك في أعقاب الغارة الإسرائيلية على بلدة السموع بالضفة الغربية في 13 نوفمبر 1966 - مذكرات الفريق محمد فوزي حرب الثلاث سنوات صفحة 73).
انتهى الاجتماع في قاعدة أبو صوير بتشديد الرئيس على أن لا نكون البادئين بالضربة الأولى .. فلما انتهى الاجتماع و غادر الرئيس القاعدة أظهر شباب الطيارون المتحمسون للقتال عدم رضاهم فطمأنهم المشير بقوله "ما تخافوش يا ولاد .. و الله حنحارب" .. و عبرت تلك الكلمات من عبد الحكيم عامر عن الهوة التي كانت تفصل بين رؤية كل من القائد العام للقوات المسلحة(*) و نائبه للأحداث الجارية.
*(يضيف بعض المحللون أن الرئيس عبد الناصر كان يتوقع أن الأمور لن تتجاوز ما حدث في فبراير 1960، إلا أن إسرائيل في يونيو 1967 كانت تنوي بالفعل الهجوم على مصر و تخطط له منذ سنوات فلما تهيأت الفرصة قامت بإستغلالها – انظر خطاب مناحم بيجين/ المصادر).
في يوم الخميس الأول من يونيو قامت الحكومة الإسرائيلية بتعيين موشى ديان وزيراً للدفاع و مناحم بيجين بطل مذبحة دير ياسين وزيراً للدولة و عقد في يوم الجمعة التالي 2 يونيو اجتماع للرئيس جمال عبد الناصر مع القادة و المعاونين بمكتب المشير عبد الحكيم عامر بمبنى القيادة العامة بمدينة نصر و صرح عبد الناصر للحضور أن تعيين موشى ديان في منصبه هو إشارة بحتمية المواجهة العسكرية و أنه يقدر حدوثها قبل وصول القوات العراقية لمساندة الجبهة الأردنية و حدد لذلك يوم الاثنين 5 يونيو(*) كحد أقصى (مذكرات السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات و مصادر أخرى عديدة) ثم وجه كلامه إلى صدقي محمود قائد الطيران و قال أن الضربة الأولى ستوجه للقوات الجوية فرد عليه قائلاً .. يا فندم احنا عاملين حسابنا والخسائر لن تزيد عن 10% (البحث عن الذات – الفصل السادس/ 13) .. كما شدد الرئيس على ضرورة أن نستعد لامتصاص الضربة الأولى و أن لا نكون البادئين بالمواجهة حتى لا نخسر التأييد الدولي مع ضرورة تشديد الدفاع الجوي و تحصين المطارات كما حدد بكل وضوح ضرورة نقل الطائرات المقاتلة المتمركزة بمطارات سيناء الأربعة و كذا قاذفات القنابل المتمركزة بمطارات القناة إلى مطارات بديلة في العمق.
*(تشير بعض المصادر إلى توفر معلومات تفيد بقيام إسرائيل بالهجوم في أوائل يونيو إلا أنه لم يكن من بينها المخابرات العامة أو الحربية).
لم تبلّغ أي من توجيهات الرئيس لقيادات الدفاع الجوي بل تهكم المشير عامر على توجيهاته عقب مغادرة الرئيس للاجتماع قائلاً "هو يعني كانت تقديراته سليمة في 56" (مذكرات الفريق محمد فوزي بعنوان حرب الثلاث سنوات صفحة 124 و 125) ولم يتم نقل أي طائرات من سيناء سوى سرب واحد فقط .. و رغم الإشارات العديدة من عدة مصادر و التي تنبئ بحتمية و قرب وقوع الهجوم الإسرائيلي و رغم تحذير عبد الناصر أن يوم 5 يونيو هو التاريخ الأكثر احتمالاً و أن الضربة الأولى ستوجه للطيران إلا أن المشير عامر تجاهل كل ذلك و استقل طائرة في ذات الصباح و معه بعض معاونيه (على رأسهم الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية) لتفقد الأوضاع في سيناء، و صدرت الأوامر لبطاريات الدفاع الجوي بالتوقف عن العمل حتى لا تصاب طائرة المشير بالخطأ، أما كافة قادة الفرق و الألوية في سيناء فقد تركوا مواقعهم و أصطفوا لإستقبال المشير في مطار بير تمادا بوسط سيناء .. و قبل هبوط الطائرة اكتشف قائدها هجوم الطائرات الإسرائيلية على المطار فاستدار عائداً و هبط بمطار القاهرة الدولي .. و بالطبع لم يكن أحد على علم بوصول المشير و صحبه من القادة فلم يجدوا أمامهم وسيلة للوصول إلى مقر القيادة بمدينة نصر سوى أن يستقلوا سيارة أجرة .. !!
و في مذكراته يسرد لنا الفريق محمد فوزي رئيس الأركان أن المشير عبد الحكيم عامر استدعاه بعد ظهر يوم الثلاثاء 6 يونيو – ثاني أيام الحرب – ليبلغه سرعة اعداد خطة للإنسحاب من سيناء .. فأسرع لتنفيذ الأمر و إعداد الخطة مع معاونيه الفريق أنور القاضي و اللواء ممدوح جاد تهامي فلما عاد لطرح الخطة على المشير موضحاً أن تنفيذ الإنسحاب سيستغرق أربعة ليالي وثلاثة أيام، رد عليه المشير قائلاً .. ثلاثة أيام يا فوزي؟ أنا خلاص أعطيت أمر الإنسحاب بالسلاح الفردي !! (مذكرات الفريق محمد فوزي بعنوان حرب الثلاث سنوات صفحة 152) .. و هكذا انسحبت جبهة كاملة للقتال بدون أي خطة و بدون غطاء جوي وبالسلاح الفردي فقط متخلية عن أكثر من 800 دبابة و مدرعة دون أي قتال .. و من الغريب أن الأوامر بالإنسحاب لم تصل إلى جميع القيادات مثل الفريق أول عبد المحسن مرتجي في قيادة وسط سيناء الذي علم بالأمر من الشرطة العسكرية عندما رأى قواته تنسحب.
و في اليوم التالي الأربعاء 7 يونيو – ثالث أيام الحرب – و عندما أدرك المشير فداحة الخطأ الذي ارتكبه قرر أن يكتفي بالإنسحاب إلى خط المضايق شرق القناة فلما اتصل بالرئيس جمال عبد الناصر ليستشيره رد عليه بقوله "يعني أنت أخدت رأيي في الإنسحاب الأول و جاي دلوقت تسألني عن المضايق؟" (نفس المصدر صفحة 156) .. إلا أن الكارثة كانت قد حلت و لا سبيل إلى تداركها حيث كانت التشكيلات و الوحدات قد بدأت بالفعل في الإنسحاب غرباً و أصبحت الاتصالات بينها و بين قياداتها شبه منعدمة .. عارية من أي غطاء جوي أو أي دفاع يحميها .. حشود تتحرك فوق عدد محدود من الطرق المكشوفة .. فريسة سهلة و صيد سمين لطائرات العدو (كان عدد شهداء و أسرى مصر قبل صدور قرار الإنسحاب يقدر بالمئات أصبح بعد صدور القرار يقدر بالآلاف).
من المؤسف أن يتضح بعد ذلك أنه رغم السيطرة الجوية شبه التامة للقوات الإسرائيلية إلا أن أقصى طموحات إسرائيل لم تكن تتجاوز الوصول إلى حدود خط الدفاع الثاني للقوات المصرية، فلما انهارت القيادة العسكرية المصرية و وصلت أنباء إنسحاب القوات البرية المصرية إلى العدو قبل نهاية اليوم الثاني من نشوب القتال كان الأمر – بداية – مفاجأة غير متوقعة، فلما تم التأكد من صحتها انطلقت قواتهم تتسابق للوصول إلى الضفة الشرقية للقناة.
قدمت المجموعة 73 مؤرخين حلقات عن أسرار و خفايا حرب أكتوبر 73 تصدرتها في الحلقات الخمسة الأولى خلفية عن حرب يونيو 1967 و الجزء الأول متاح على الرابط التالي و يليه أربعة أجزاء بالترتيب:
الجزء الأول
https://www.youtube.com/watch?v=rinh7bIaXyY