top of page

كان موقف جمال عبد الناصر داخل بلاده قوياً و ثابتاً، و لقد بدا واضحاً كل الوضوح – لكل أجهزة المخابرات في الغرب – أن لا سبيل إلى إزاحته إلا عن طريق هزيمة عسكرية تطيح به .. "

من كتاب "الخدمة السرية لإسرائيل" للصحفي و المؤرخ الانجليزي جورج دونالد كينج ماكورميك الصادر عام 1977

George Donald King McCormick – The Israeli Secret Service

006001.png

حدود دولة إسرائيل 1948 تجعلها شريط ساحلي ضيق حيث تبعد تل أبيب على ساحل البحر الأبيض المتوسط عن حدود الضفة الغربية بمسافة 25 كيلومتر فقط بينما لا يتعدى أقصى عرض للدولة 120 كيلومتر تقطعها الطائرة المقاتلة في أقل من عشرة دقائق .. يحتم ذلك على إسرائيل – و هي المحاطة بدول معادية من كل جانب – أن تتبع استراتيجية عسكرية وقائية إستباقية و أن تنقل المعركة إلى أرض العدو، لذلك يخطئ من يتصور أن إسرائيل كانت ترد عدواناً عليها من مصر و العرب في حرب يونيو 1967(*)، فقد كانت الحرب وقائية استباقية بكل المقاييس خططت لها إسرائيل عقب حرب 1956 مباشرة و استدرجت مصر اليها بمعونة حلفائها، فكما ذكرنا كانت كل خطط القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية دفاعية أساساً ولم تكن يوماً هجومية على الإطلاق بالإضافة إلى وعي القيادة العامة لقصور امكانياتها الذي يتبين من تقرير هيئة العمليات بخصوص النسخة الأخيرة من الخطة "قاهر" بتاريخ ديسمبر 1966.

*(صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين في خطابه أمام خريجي كلية الدفاع القومي في 8 أغسطس 1982 أن حجم القوات المصرية في سيناء يدل على أن عبد الناصر لم تكن لديه أية نية لمهاجمة إسرائيل .. و أضاف أنه يجب علينا الإعتراف بذلك و أننا نحن من قررنا الهجوم عليه – أنظر نص الخطاب بالرابط).

من المؤسف أن ينساق البعض ممن لا يتفقون مع عبد الناصر إلى ترديد مقولة أنه خسر كل الحروب التي خاضها فيخلطون الأمور و يتجاهلون حقيقة واضحة و هي أن مصر لم تكن أبداً المعتدية على إسرائيل في 56 أو في 67 بل كان التحرش دائماً من الجانب الإسرائيلي منذ نشأتها و لم يقتصر على الاشتباكات العسكرية فقط بل امتد إلى الغارات على الحدود و إلى العمليات التخريبية ضد المنشأت الأجنبية داخل مصر و إلى إغتيال رموز مصرية حققت نبوغاً وتفوقاً في مجالات تخصصها (سميرة موسى 1952 – يحيى المشد 1980، و غيرهم من نوابغ مصر و العرب) بالإضافة إلى تهديد واغتيال الخبراء الأجانب بمصر في الستينيات .. أما أكتوبر 1973 فقد كانت الحرب الوحيدة التي بدأتها مصر ضد إسرائيل و كانت لغرض مشروع و هو استرداد أرضها المحتلة.

رغم "الهزيمة" العسكرية إلا أن مصر لم تستوعب أية دروس من حرب 1956 بل على العكس فقد تزينت شوارعها بمظاهر الاحتفال وأقواس النصر و انطلقت من اذاعاتها الأناشيد الحماسية، أما إسرائيل – المنتصرة – فلقد أخذت بأسباب العلم واستخلصت من حرب 1956 عدة دروس أهمها الإعتماد على الذات و عدم الاعتماد على قوة أجنبية بشكل مباشر و ضرورة خلق تفوق نوعي يعوض التفوق الكمي للدول العربية مجتمعة و أن سلاح الطيران هو أهم الأسلحة و أخيراً أن تكون الحرب خاطفة وسريعة لأن إسرائيل لا تستطيع تحمل التعبئة العامة لفترة طويلة تستنزف مواردها .. و كانت النتيجة المستفادة لإسرائيل من تلك الدروس هي استمرار تفوقها بينما كررت مصر نفس الأخطاء مرة أخرى .. و دفعت الثمن غالياً.

طبقت إسرائيل الدروس المستفادة من حرب 1956 بمنتهى الكفاءة فكانت أولى و أهم الخطوات هي الإعداد للخطة الجوية "موكيد أو فوكس Moked or Focus" التي وضعها عيزرا وايزمان قائد القوات الجوية منذ عام 1962 (أي قبل حرب يونيو 1967 بخمس سنوات كاملة).

شملت الخطة الحصول على طائرات حديثة و تكفلت فرنسا بذلك كونها المورد الأساسي أنذاك للقوات الجوية الإسرائيلية و قامت بتزويدها بعدد 70 طائرة ميراج حديثة بالإضافة إلى طائرات السوبر ميستير، و بالرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية بين ألمانيا الغربية و إسرائيل في ذلك الوقت إلا أن إسرائيل حصلت عام 1965 على صفقة أسلحة ضخمة من ألمانيا الغربية تحت ضغط من الولايات المتحدة شملت 48 قاذقة قنابل (و 200 دبابة طراز باتون) .. و من جانبها أضافت الولايات المتحدة 48 طائرة سكاي هوك عام 1966 (بلغ عدد طائرات سكاي هوك التي حصلت عليها إسرائيل أكثر من 80 طائرة وصلت اخر دفعة منهم يوم 24 مايو 1967) كما أمدتهم بصور لكل المطارات الحربية المصرية فأقامت إسرائيل نماذج مماثلة لها ليتم تدريب الطيارين على اتقان الهجوم عليها، و شمل التدريب رفع كفاءة الصيانة و رفع كفاءة إعادة تجهيز الطائرة للطيران لتحقيق أقصى استفادة من الطلعات الجوية، و رغم أن سلاح الجو الإسرائيلي كان في حدود 250 طائرة إلا أن عدد الطيارين كان نحو 500 طيار (تم تجنيد العشرات من الطيارين من دول أوروبا الغربية و الولايات المتحدة) في حين كان عدد الطيارين المصريين أقل من عدد الطائرات (الفرص الضائعة أمين هويدي صفحة 97)، و حصلت إسرائيل في ابريل 1965 على طائرة ميج 21 عراقية هربها اليهم قائدها العراقي فاستخدمتها في دراسة امكانياتها و التدرب على مواجهتها، كما عملت على خلق تفوق نوعي للجندي الإسرائيلي عامة عن طريق جذب المتطوعين المتخصصين (و هي نفس الدروس التي استوعبتها و طبقتها قيادات القوات المسلحة المصرية في الإعداد لحرب أكتوبر 1973 والتي كان تجنيد حملة المؤهلات العليا أحد عناصرها الأساسية حيث كانت نسبة الأمية بين الجنود عام 1967 تتعدى 80% كما عملت سرعة تدريب و تجهيز أكبر عدد ممكن من الطيارين).

و أخيراً قامت القوات الجوية الإسرائيلية منذ مطلع عام 1965 بتدريب طياريها على الطلعة الجوية الشاملة  المفاجئة فكانت أسراب المقاتلات تنطلق مع أولى ساعات الصباح كل يوم متجهة غرباً نحو البحر المتوسط حتى اعتاد المصريون على ذلك واعتبروها طلعات تدريبية يومية روتينية.

أما على الصعيد الدولي فقد كانت بريطانيا منذ أزمة السويس 1956 و حتى اندلاع حرب يونيو 1967 على وفاق تام مع إسرائيل تزودها بالأسلحة و تساندها في جمبع المحافل الدولية و عندما قام ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي بزيارة نظيره البريطاني هارولد ويلسون في لندن مارس 1965 لم يتردد الأخير في الاستجابة لطلبه شراء دبابات حديثة من طراز سنتوريون حتى بلغ عدد الدبابات التي استلمتها إسرائيل عقب هذه الزيارة و حتى مايو 1967 نحو 350 دبابة (من إجمالي 900 دبابة امتلكها جيش الدفاع الإسرائيلي في يونيو 1967، بالإضافة إلى شحنة كبيرة من الذخيرة و المعدات وصلت إسرائيل قبل اندلاع حرب يونيو بأسبوع واحد فقط)، كما تناقش هارولد ويلسون مع نظيره الإسرائيلي حول الظروف التي يمكن اعتبارها مقبولة بالنسبة لبريطانيا في حال قيام إسرائيل بالهجوم على جيرانها وأشار إلى أن إغلاق الممرات الملاحية (كخليج العقبة) يعتبر من الظروف المقبولة لهم .. و قد استمر عداء بريطانيا لعبد الناصر بعد أزمة السويس بسبب دعم مصر لانتفاضات بلدان الخليج العربي و اليمن ضد المستعمر البريطاني و من المعروف أن هارولد ويلسون كان من المعجبين بالفكر الصهيوني حتى أنه اعترض فيما بعد على موافقة بريطانيا على قرار الأمم المتحدة رقم 242 بشأن الانسحاب من "أراضى" محتلة قائلاً أن مجرد الحديث في هذا الأمر غير مقبول ..

أما الحليفة الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية فقد كانت بالطبع على علم بنوايا إسرائيل مسبقاً و رغم إعلان الرئيس جونسون فرض حظر على توريد الأسلحة إلى منطقة الشرق الأوسط إلا أنه قام في 23 مايو 1967 بالموافقة على شحنة أسلحة عاجلة إلى إسرائيل تم توفيرها من المخزون الإستراتيجي للولايات المتحدة في ألمانيا الغربية، و في يوم 26 مايو اجتمع أبا إيبان وزبر الخارجية الإسرائيلي مع كل من وزير الدفاع الأمريكي و رئيس الأركان و مدير المخابرات المركزية حيث أكدوا له أنهم على اقتناع تام أن إسرائيل يمكنها كسب الحرب بسهولة و في خلال أسبوع واحد على الأكثر، ثم التقى بعد ذلك مع الرئيس الأمريكي جونسون بالبيت الأبيض الذي أكد له موافقة حكومة بلاده على سياسة إسرائيل في المنطقة، ثم أعقب ذلك زيارة مائير عاميت رئيس المخابرات الإسرائيلية إلى العاصمة الأمريكية يوم 30 مايو ليجد أمامه الضوء الأخضر من الجميع على أن واشنطون لن تعترض طريق إسرائيل في حربها كما أن تصريح الرئيس عبد الناصر ليوثانت الأمين العام للأمم المتحدة أن مصر لن تبدأ بالهجوم (زيارة الأمين العام إلى القاهرة في 23-25 مايو) كشف بوضوح عن نوايا مصر فكانت تلك إشارة هامة مطمئنة أكدت لإسرائيل وأمريكا أن الفرصة مهيأة لتوجيه ضربتهم ..

04002.jpg

و يرصد المحللون دور هام لعضوة منظمة أرجون الصهيونية السابقة "ماتيلدا كريم Mathilde Krim" و التي يتم الإشارة إليها على أنها "صديقة" الرئيس ليندون جونسون، و التي كانت الشخص الوحيد – إلى جانب مستشار الرئيس للأمن القومي – الذي يمكنه إيقاظ الرئيس من نومه إذا اتصلت به ليلاً، والمشهورة بنصيحتها للرئيس جونسون "أنه يستطيع أن يكسب في الشرق الأوسط كل ما خسره في الشرق الأقصى" في إشارة إلى تورط البلاد في حرب فيتنام مع اقتراب حلول الانتخابات الرئاسية، و عن دور هذه السيدة يشير المحللون إلى وجودها شبه الدائم داخل البيت الأبيض خلال تلك الفترة و التي يكفي للدلالة على مكانتها في حاشية الرئيس شهادة "وليام كوانت 

 William B. Quandt" السكرتير العام للجنة مجلس الأمن القومي المكلفة بشئون الشرق الأوسط في كتابه "Peace Process – صفحة 51" أن الرئيس جونسون كان يقضى معها من الوقت قبل و أثناء أحداث يونيو 1967 أكثر من الوقت الذي قضاه مع كافة مستشاريه مجتمعين وأنها كانت تقدم للرئيس رسائل و تتلقى منه رسائل من و إلى أطراف أخرى دون علمهم .. و تشير سجلات البيت الأبيض لتحركات الرئيس جونسون أنه قام صباح الخامس من يونيو – و بعد أن تم إبلاغه بنشوب الحرب – بزيارة السيدة ماتيلدا بمنزلها في واشنطن في التاسعة صباحاً (تشير بعض المصادر أنها قضت الليلة في جناح للضيوف بالبيت الأبيض) لكي يزف اليها الأنباء السعيدة بنفسه و قال لها في شهادتها المحفوظة بمكتبته بتكساس .. "لقد نشبت الحرب في الشرق الأوسط و هناك من يتساءلون عمن بدأها أما أنت و أنا فنعرف تماماً من بدأها" (هيكل/1967 الانفجار – صفحة 720) .. و قد صدر عن دور هذه السيدة و تأثيرها على قرارت الرئيس الأمريكي قبل و أثناء حرب 1967 مئات المقالات و ذُكرت في العشرات من الكتب، و من بين المواقف التي كان لها فيها دور هام هو التأثير على الرئيس جونسون عقب حادث الإعتداء الإسرائيلي على السفينة الأمريكية "ليبرتي" حيث كان تعليقها أنه لا يليق أن يتسبب هذا الحادث في تشويه فرحة انتصار إسرائيل كذلك تأجيل الموافقة على وقف إطلاق النار إلى يوم السبت 10 يونيو حتى تنتهي إسرائيل من احتلال هضبة الجولان رغم أن مصر – العدو الأخطر – كانت قد وافقت على وقف إطلاق النار منذ الخميس 8 يونيو.

 

أما الملك حسين ملك الأردن صاحب أطول جبهة في مواجهة إسرائيل فقد كان في موقف لا يحسد عليه فنصف سكان مملكته من الفلسطينيين فإذا تخلف عن الاشتراك في المواجهة و انتصرت إسرائيل فلن ينقذه شئ من انتقام الفلسطينيين على تخاذله، و إذا انتصرت مصر فمن يضمن له أن لا يطمع عبد الناصر في إسقاط عرشه فأختار أن يتواصل مع إسرائيل و الولايات المتحدة ليؤكد لهم أنه لن يشارك في الهجوم أملاً أن يضمن له ذلك سلامة عرشه(*)، أما على الملاء فأنه سيظهر مساندته لمصر و لعبد الناصر و بالفعل حضر إلى القاهرة يوم الثلاثاء 30 مايو لتوقيع إتفاقية دفاع مشترك مع مصر، و نجحت خطة جلالته وكان له ما أراد مع تعديل بسيط فقد ضمت إسرائيل القدس الشرقية اليها لدواعي قومية كما ضمت الضفة الغربية بأكملها لدواعي توسعية و أمنية ليكتفي هو بما تبقى له من أراضي مملكته شرق نهر الأردن و الأهم من ذلك بالطبع هو الحفاظ على عرشه .. و هو أكبر هموم أصحاب العروش (كتاب أشهر الخيانات عبر التاريخ – صفحات 95-105).

*(كرر جلالته نفس الفعلة المشينة قبل نشوب حرب أكتوبر 1973 .. كما شاركه في الخيانة من قبل الحسن الثاني ملك المغرب بتوفيره كافة المعلومات عن كل ما تم مناقشته في اجتماع القمة العربي الثالث الذي عقد بالدار البيضاء بالمغرب في سبتمير 1965 و ذلك مقابل توفير الموساد لمعلومات عن مكان المعارض المغربي المهدي بن بركة .. و قد أدى هذا التعاون المغربي الإسرائيلي إلى اعتقال بن بركة بنهاية الشهر التالي مباشرة - يوم 29 أكتوبر - و إختفائه تماماً منذ ذلك التاريخ).

لم يتبقى سوى استدراج مصر و عبد الناصر و استفزازها لدخول الفخ المنصوب و توفرت الفرصة لذلك مع تصاعد الأمور في ربيع 1967 بداية بالغارة الجوية الإسرائيلية على سورية في السابع من ابريل 1967 و إسقاط 6 طائرات سورية رداً على هجمات منظمة التحرير الفلسطينية عبر الحدود السورية ثم تصريح ليفي أشكول رئيس الوزراء أن إسرائيل لن تسكت على حرب العصابات التي تأتيها عبر حدودها الشمالية و يليه تصريح إسحاق رابين رئيس الأركان أنهم سيحتلون دمشق لإسقاط النظام ثم تسريب أنباء الحشود الإسرائيلية على الحدود السورية في منتصف مايو مما دفع مصر إلى رفع درجة الاستعداد و اعلان التعبئة العامة تطبيقاً لمعاهدة الدفاع المشترك بين البلدين ثم توجيه بعض الإذاعات العربية في الرياض و عمان أن مصر لن تحارب و أنها تحتمي خلف قوات الأمم المتحدة و ما تلى ذلك من تداعيات أصبحت معها المواجهة العسكرية حتمية (مذكرات اسحاق رابين صفحة 68-69) و إمعاناً في التضليل قامت الولايات المتحدة بإرسال أكثر من رسالة و إيفاد أكثر من مبعوث إلى القاهرة للتأكيد على أن الولايات المتحدة تسعى لحل سلمي للأزمة منهم لقاء السفير الأمريكي بالرئيس عبد الناصر في 26 مايو لإبلاغه رسالة الرئيس جونسون بألا تكون مصر البادئة بالعدوان (اجتمع الرئيس جونسون في نفس اليوم كما ذكرنا مع وزير الخارجية أبا ايبان ليؤكد له دعمه لسياسة إسرائيل) كما دعت زكريا محيي الدين نائب الرئيس للحضور إلى واشنطن يوم 5 يونيو للتفاوض بخصوص سبل حل الأزمة سلمياً في حين أن واشنطن كانت تستقبل في نفس الفترة سراً و علناً وفوداً إسرائيلية في مكاتب وكالة المخابرات الأمريكية لتزويدهم بالخرائط التفصيلية و نتائج أحدث صور للإستطلاع الجوي لوضع اللمسات الأخيرة للهجوم الإسرائيلي .. و في يوم 23 مايو أبحرت السفينة "ليبرتي" إلى البحر الأبيض المتوسط لتتخذ موقعها قبالة سواحل العريش حيث قامت بدور هام في التوجيه الملاحي للطائرات الإسرائيلية أثناء رحلتها فوق البحر المتوسط نحو أهدافها المحددة داخل الأراضي المصرية ثم قامت بدور أخر أثناء الحرب بالتشويش على أنظمة الرادار المصرية و التصنت على الرسائل المتبادلة بين الأطراف العربية و إعاقتها (هيكل/ 1967 الانفجار – صفحة 139) بينما كانت الغواصة الإسرائيلية "تانين"INS Tanin  قد انطلقت منذ الأول من يونيو لتتخذ موقعها أمام سواحل الإسكندرية في انتظار الأوامر للإشتباك .. و أخيراً، و لأول مرة في تاريخ البحرية البريطانية، تم يوم 3 يونيو تسليم قيادة وحدات القوات البحرية البريطانية الموجودة في البحر الأبيض المتوسط إلى قيادة الأسطول السادس الأمريكي !! (نفس المصدر – صفحة 706).

 

و هكذا أعد المسرح و قسمت الأدوار و لم يتبق سوى رفع الستار عن عملية "اصطياد الديك الرومي" و هو اللقب الذي أطلقته المخابرات الأمريكية و الرئيس ليندون جونسون على الرئيس جمال عبد الناصر.

04003.jpg

لا يزيد عرض الممر عن 40 متر .. لذلك و لضمان دقة التصويب يجب على الطائرة الإنخفاض إلى ارتفاع لا يزيد عن 60-70 متر فوق الممر وعلى خط موازى تماماً له .. إلا أن سرعتها العالية مع هذا الارتفاع المنخفض لا تتيح قوة تدميرية كبيرة لذلك يتم فور إلقاء القنبلة إطلاق شحنة عكس اتجاه القنبلة لتبطل سرعتها الأفقية ثم يعمل مركز الثقل على توجيه مقدمة القنبلة إلى أسفل ثم يتم إطلاق شحنة خلفية لزيادة سرعة سقوط القنبلة بحيث ترتطم بسطح الممر بأقصى قوة ممكنة لتخترقه محققة قوة تدميرية كبيرة.

انطلقت أسراب الطائرات الإسرائيلية صباح الخامس من يونيو عام 1967 كالمعتاد في تدريباتها الروتينية اليومية متجهة غرباً فوق البحر المتوسط إلا أن الأفواج لم تنقطع في هذا الصباح بل تتابعت تطير على ارتفاع منخفض تحت مستوى رادارات الدفاع الجوي المصري (500 متر) لتصل إلى أكثر من 170 طائرة على أقل تقدير و تم ذلك حسب جدول زمني محدد بدقة لكل سرب تم تحديده حسب المسافة بين موقع القاعدة الجوية للسرب في إسرائيل و بين هدفها المحدد لها داخل الأراضي المصرية بحيث تصل جميع الطائرات إلى أهدافها في توقيتات متقاربة لا تتيح لأي قاعدة جوية مصرية الفرصة لتنبيه القواعد الأخرى أو الإنطلاق لنجدتها و أن يكون ذلك في الثامنة و خمسة وأربعون دقيقة صباحاً الموعد المعتاد لإنتهاء الطلعات الصباحية للمقاتلات المصرية وتوجه الطيارين المصريين لتناول وجبة الإفطار.

 

تم تزويد الطائرات الإسرائيلية المغيرة بخزانات وقود إضافية لتتمكن من بلوغ أهدافها بالعمق المصري بسهولة (و هو الأمر الذي أعترف الفريق صدقي محمود قائد الطيران في محاكمته أنه لم يؤخذ في الحسبان) و استهدفت الموجة الأولى من الهجوم تدمير ممرات الإقلاع و الهبوط بالمطارات الحربية أساساً ثم تبعتها الموجة الثانية و الثالثة التي استهدفت اصطياد الطائرات القابعة على أرض المطارات عاجزة عن الإقلاع، و للتغلب على صعوبة توفير قوة تدميرية كافية من قنابل تسقطها طائرات منقضة بسرعة عالية و من ارتفاع منخفض تم بالتعاون مع فرنسا تصميم قنابل خارقة للأسمنت مخصصة للإستخدام من ارتفاع منخفض (الرسم التوضيحي أعلاه) بما يكفل تحقيق أقصى قدر ممكن من التدمير للممرات لتصبح بعدها الطائرات المصرية عاجزة عن الإقلاع إلا فيما ندر من حالات نجح فيها بعض الطيارين أن ينطلقوا بطائراتهم و ينقذوها من التدمير بل و استطاع بعضهم أن يشتبكوا مع الطائرات المغيرة و يسقطوها (منهم عمي الشهيد مقدم طيار محمد سعيد شلش) .. و لكن كانت الخسائر فادحة للأسف و مال ميزان القوى بشدة لصالح القوات الإسرائيلية منذ الساعات الأولى بل منذ الدقائق الأولى و لم تكن شجاعة و بطولات بعض الطيارين المصريين كافية لإصلاح ما فسد ..

 

 

 

تضيف بعض المصادر أن الولايات المتحدة الأمريكية وفرت قاعدة هويلاس في ليبيا لانطلاق بعض الطائرات الإسرائيلية منها كما تكفّل الأسطول السادس الأمريكي بتأمين المجال الجوي الإسرائيلي المكشوف بسبب اشتراك معظم طائرات سلاح الطيران الإسرائيلي في الهجوم على مطارات مصر الحربية في هذا الصباح المشئوم من الخامس من شهر يونيو من عام 1967.

 

حدث كل هذا بينما كان نائب القائد العام للقوات المسلحة المصرية و معه قائد القوات الجوية و مرافقيهم من كبار القادة يقفون أمام مطار القاهرة الدولي يبحثون عن سيارة أجرة لتنقلهم إلى مركز القيادة ..

 

ستظل يونيو 1967 هزيمة عسكرية يتحملها المشير عبد الحكيم عامر بالكامل و الذي فشل في إدارة كافة مراحلها (رفع درجة استعداد الجيش رغم أن هذا القرار خارج صلاحياته/ عدم التراجع عن قراره رغم ثبوت انعدام مبرراته/ استدعاءالاحتياطي و تعبئة القوات في مهزلة للتنظيم و الحشد/ الاعتماد على خطة دفاعية بعد إدخال تعديلات عديدة عليها/ الحث على سحب كامل قوات الأمم المتحدة/ تجاهل تحذيرات عبد الناصر و مصادر أخرى بشأن موعد الهجوم الإسرائيلي/ و أخيراً الإنسحاب الكارثي الذي تسبب في معظم ضحايا الحرب من الشهداء و الأسرى) ..

 

و لا أدل على مسئوليته و عدم تقديره للموقف من وقائع اللقاء الذي عقد في المقر المؤقت لرئاسة الفرقة الثالثة مشاه ميكانيكي بجبل لبنى جنوب العريش و ذلك يوم السبت 20 مايو و هو اللقاء الذي حضره المشير عبد الحكيم عامر و الفريق صدقي محمود قائد الطيران والفريق أول عبد المحسن مرتجى قائد الجيوش البرية و عدد من القادة، و الذي ذكرت تفاصيله في كتاب (خطوات على الأرض المحبوسة/صفحة 21 – انظر المصادر) حيث كان الكاتب شخصياً أحد الحضور – كما كان أيضاً أحد أسرى الحرب – و الذي يسرد وقائعه فيقول:

"تكلم المشير عن المعركة القادمة بصفتها نزهة عسكرية، و حين طلب من الضباط توجيه أسئلة سأله أحدهم: هل نحن مستعدون للحرب؟ فأجاب غاضباً: بالطبع .. احنا عندنا أقوى طيران في الشرق الأوسط، أنتم جهلة .. قول لهم يا صدقي قول لهم عن السوخوي والتوبوليف، فرد صدقي: يا فندم لن يحتاج المشاة للحرب، سأنهي المعركة و لن يحتاج جندي المشاة حتى لتطهير الخنادق سأطهرها بالطيران، و خرج الضباط عن وقارهم فصفقوا، سأل ضابط آخر: يا فندم الجيش كله في سيناء و هذا ما حدث في 56، ماذا سيحدث لو هاجموا مصر؟ فدق المشير المنضدة بعنف بقبضته و قال: أنا المشير عبد الحكيم عامر بأقول إني قادر على حماية مصر و تحقيق نصر في اليمن و تحقيق نصر في سيناء .. ثم انتصب واقفاً و غادر القاعة وهو يبتسم و يقول .. إن شاء الله لن يحدث شيء".

 

كانت هذه هي رؤية المشير عبد الحكيم عامر نائب القائد العام للقوات المسلحة و رؤية معاونيه من القادة للموقف و تقديرهم للمواجهة العسكرية المنتظرة ..

أما تطورات الموقف من الناحية السياسية حتى نشوب الحرب فهي مسئولية الرئيس جمال عبد الناصر بالكامل الذي غفل عن قراءة الفخ المنصوب له .. و لمصر ..

كما تظل المكانة الخاصة التي كفلها لصديقه عبد الحكيم عامر على رأس القوات المسلحة المصرية رغم عدم كفاءته الواضحة للمنصب – و هو التساؤل الذي طرحه الكثيرون – هي أكبر و أعظم أخطائه.

bottom of page