أما بعد،
فلقد كانت تلك صفحات مشرقة من تاريخ بلادنا لا تعلم الأجيال الجديدة عنها شيئاً و لا تدري أنه لولا تضحيات هؤلاء الأباء والأجداد في الماضي القريب لما كان للأبناء و الأحفاد أن ينعموا اليوم بوطن آمن مستقر يعيشون فيه بكرامة و سلام .. وأن هؤلاء الأباء و الأجداد خاطروا بحياتهم دون تردد و سقط منهم الشهداء من أجل تحقيق ذلك.
أود هنا أن أشير إلى نقطة هامة عن الفرق بين الجندي الإسرائيلي و الجندي المصري، فرغم أن إسرائيل منذ نشأتها وهي ربيبة للولايات المتحدة الأمريكية الضامنة لتفوقها العسكري الدائم على جميع الدول العربية مجتمعة إلا أنه نادراً ما وجدت في سجلات المواجهات بيننا و بينهم ما يشير إلى بطولات إستثنائية من جانبهم، فأنت تجدهم دائماً حريصون على أن تتم عملياتهم في ظل أغلبية عددية و مستهدفة لأهداف مدنية أو نقاط معزولة و نسبة التواجد العسكري بها ضعيفة.
و في المقابل نرى أمامنا الجندي المصري يحارب بأسلحة و عتاد متأخر عن مثيله الإسرائيلي بجيل أو أكثر و لكنهم كانوا شباب متقد وطنية و حماس يتقدمون الصفوف بل و يتنافسون لنيل شرف الاشتراك في عمليات قتالية خلف خطوط العدو و في قلب استحكاماته حيث يحيط بهم الخطر في كل خطوة و في كل ثانية غير عابئين بذلك في سبيل رفعة أوطانهم.
هذا هو الجندي المصري .. الجندي البطل العملاق الذي يواجه دبابات العدو بمفرده ليدمر لهم 27 دبابة بمدفعه المحمول على كتفه .. الطيار النسر المقاتل الذي ينطلق لينقذ طائرته الميج من التدمير و يطارد طائرات العدو المتفوقة من فانتوم وميراج و سكاي هوك ليسقطها و يجبرها على الفرار .. الوحش البحري و الفارس النبيل الذي يسبح لساعات في بحر متلاطم الأمواج في ظلام الليل ثم يغوص لينقض على هدفه بينما قنابل الأعماق تنفجر حوله لا يبالي ثم يعود سباحة وهو يسحب معه رفيقه الشهيد لمسافة 14 كيلومتر حتى لا يترك جثمانه للأعداء و لا يكتفي بذلك بل يتنافس مع زملائه ليفوز بشرف المشاركة في المهمة القتالية التالية .. هذا هو أبوك و أبو صديقك و أبو جارك الذي لم يتردد للحظة واحدة في أن يخاطر بحياته من أجلك و من أجل مستقبلك .. فهل ذهبت تضحياتهم هباء؟ و هل انتهت النخوة و الوطنية بإنتهاء هذا الجيل من الشباب و الرجال العظام؟
أين ذهبت هذه الروح و هذه الحمية و الغيرة على مصر ؟ و لماذا نرى بعض شباب اليوم يخاطرون بحياتهم و مدخرات عائلاتهم من أجل رحلة عبر المتوسط يغرق فيها العشرات فإن وصلوا إلى شواطئ أوروبا قاموا بأحقر الأعمال اليدوية .. ولماذا نرى بعض شباب اليوم يبيع عقله و يعتنق بعض الأفكار العنصرية المتطرفة و يصبح ولاءه لغير بلده .. و أين ذهب الإنتماء و الإيثار؟
إذا كانت مشاعر النخوة و الوطنية و الإنتماء قد انتهت فلقد هزمنا أنفسنا بلا حرب .. و ما كان هناك أي داعي لمثل هذا الكتاب الذي بين يديك .. إلا أن انتفاضة الشعب المصري في يناير 2011 و في يونيو 2013 أثبتت عكس ذلك فلقد هب كل وطني غيور – النساء قبل الرجال و الشيوخ قبل الشباب – ينفض عن نفسه غبار اليأس و يسترجع من مخزونه الحضاري الممتد لآلاف السنين زاداً يدفعه للدفاع عن مصر و عن حقه في حياة كريمة أمنة و في عزة وطنه و رفعته ..
فلنٌحيي إذاً هذه الروح و نغذي جذوتها في القلوب و لنا في قصص هؤلاء الأبطال التي أوردناها على هذه الصفحات خير قدوة و خير مثال فهم من كل حي و من كل بيت و من كل أسرة .. و نحن منهم و هم منا .. نحن جميعاً من صلب واحد وتجري في عروقنا نفس الدماء .. نحن منهم و نملك تحقيق أمثال بطولاتهم و تقديم التضحيات مثلهم .. ليس كجنود في ميادين القتال فحسب بل جنود في ميادين العلم والعمل من أجل رفعة شأن بلادنا و نهضتها.
إن بطولات قواتنا المسلحة و معهم رجال الشرطة لم تتوقف حتى اليوم و ما زالت تضحياتهم مستمرة و هم يقفون بصمود ليدفعوا عنا الأخطار داخلياً و خارجياً شرقاً و غرباً شمالاً و جنوباً و ما زال الشهداء يدفعون بدمائهم ثمناً غالياً لأمننا ولحريتنا، فما زالت مصرنا هدفاً لمؤامرات التفكك و الإضعاف و قدرها – عبر التاريخ – أن تكون الدرع الواقي لمنطقتنا والملجاء الأمن لشعوبها .. و قد عبر عن هذا شاعر النيل حافظ ابراهيم أبلغ تعبير حين قال عن مصر في كلمات شدت بها بعزة كوكب الشرق أم كلثوم ..
"أنا إن قدَّر الإله مماتي .. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي".
إن مصر بلادنا من أعرق الأمم شهدت أولى الحكومات في التاريخ المعروف و شعبها من أول الموحدين بالله و نحن نملكها و نحن ورثتها و ورثة هذا الإرث العظيم فلنتكاتف جميعاً لنصبح أهل له و لندافع عن مصرنا و نحميها من الأخطار الداخلية قبل الخارجية .. و علينا أن نغرس في وعي الأجيال الجديدة الشابة قيمة مصر و قدرها لتستعيد تلك الأجيال إنتمائها لبلدها و تستشعر مسئوليتها و واجبها تجاه وطنها و لنا في بطولات هؤلاء الآباء و الأجداد العظام القدوة و المثال كما علينا أن نغرس فيهم إنتماءنا لعروبتنا و لقد رأينا كيف أن نجاح عمليات إختراق ميناء إيلات نجحت بالتعاون بين المصري والفلسطيني و الأردني و العراقي معاً .. و رأينا وصف أبطالنا لمشاهد فرحة المواطنين في الأردن و سورية و لبنان بنجاح عملياتهم .. فرغم ما يبدو من خلاف بين قادة بعض بلادنا إلا أن القادة زائلون و الشعوب باقية .. فإن نهضة الشعوب و قوتها تكمن في وحدتها بينما يكمن ضعفها في فرقتها ..
إن بلادنا في منعطف خطير يحتاج منا جميعاً إلى تكاتف الصفوف و الإخلاص في النية و في العمل كما يجب على قيادات البلاد أن تكون أهلاً لموقعها و للأمانة الملقاة على عاتقها بالعمل الجاد و المخلص لرفعة الوطن .. و بالعلم و التخطيط للعمل على نهضتها .. و بالقضاء على الفساد و بتحقيق المساوة بين الجميع أمام القانون و المساوة في الحقوق والواجبات، لكي يعيدوا بعث روح الإنتماء للوطن في شباب اليوم و لكي تصلح التربة و لكي يعود النبت المصري الأصيل إلى النمو و الإزدهار.