تدمير و إغراق المدمرة "إيلات" (INS Eilat (K-40
كان لنجاح عملية "رأس العش" أكبر الأثر على رفع الروح المعنوية للجميع جيشاً و شعباً و إثبات أن الهزيمة لم تؤثر على ارادة المقاتل المصري و صلابته و أنه ظلم بهزيمة لا يستحقها في حرب خاطفة خذلته فيها قياداته دون أن تتاح له الفرصة ليكون له فيها أي دور.
كانت تلك هي أولى المواجهات العسكرية مع العدو عقب هزيمة يونيو و تلى ذلك بعض الإشتباكات من الجانبين كان أهمها قيام سلاح الجو المصري بطلعات هجومية يومي 14 و 15 يوليو كانت الأولى منذ نهاية الحرب حيث تم الإشتباك مع طائرات العدو وإسقاط عدداً منها، ثم عمليات القصف المدفعي يوم 20 سبتمبر .. إلا أن الضربة الأكبر ما لبثت أن لحقت بالعدو يوم السبت 21 أكتوبر 1967 بالهجوم على المدمرة البحرية "إيلات" و إغراقها أمام سواحل بورسعيد و تكبيدها عشرات الضحايا، وكان قائد قاعدة بورسعيد البحرية (بالنيابة) أنذاك هو العقيد طلعت عبد الحميد نصر.
تبدأ القصة مع اعتياد وحدات البحرية الإسرائيلية المرور أمام سواحل بورسعيد خارج المياه الإقليمية المصرية في استعراض استفزازي لقوتها و تحدٍ واضح للقيادة العسكرية المصرية و سيادتها (تمتد المياه الإقليمية المصرية لمسافة 12 ميل بحري أو نحو 22 كيلومتر) و رغم تكرار ذلك ظلت أوامر القيادة العامة دائماً تقتضي ضبط النفس و تجنب الاشتباك.
رصدت أجهزة المراقبة مرور الوحدات البحرية الإسرائيلية بصورة متواصلة في الفترة من يوم الأربعاء 18 أكتوبر حتى يوم الجمعة 20 أكتوبر، و في مساء هذا اليوم تم رصد عدة أهداف شمال شرق سواحل بورسعيد على مسافة تتراوح بين 25 و40 ميل بحري وأظهرت البصمة الرادارية لهم أن إحدى القطع على الأقل مدمرة، و في فجر يوم السبت 21 أكتوبر تم تعزيز تلك المعلومات بوصول بلاغ من القبطان أمون واصف قائد أحد السفن التجارية المصرية عن رؤيته لمدمرتين إسرائيليتين من طراز Z البريطاني المنشاء والتي تملك إسرائيل منها مدمرتين – "إيلات" و "يافو" – على مسافة 40 ميل شمال شرق بورسعيد .. ورد هذا الخبر في تقرير الاستطلاع اليومي الذي أطلع عليه الفريق محمود عبد الرحمن فهمي رئيس شعبة العمليات البحرية (عميد أنذاك) عند وصوله إلى مركز العمليات الدائم بالإسكندرية في التاسعة من صباح السبت 21 أكتوبر .. و نتابع الأحداث مع الفريق محمود فهمي من مذكراته بعنوان "صفحة من التاريخ" حيث يقول:
"بحلول الساعة العاشرة و النصف صباحاً مرت احدى المدمرتين على بعد 15 ميل بحري شمال بورسعيد ثم استدارت متجهة شرقاً .. فثرت بشدة و غضبت لتلك الإهانة و العربدة في مياهنا في وضح النهار و أمام أعيننا و ذهبت إلى قائد القوات البحرية اللواء فؤاد ذكري أقول له أنه لا يمكن الصبر على مثل هذه الإهانات و أطلب منه الإذن بضرب المدمرة مؤكداً أننا نملك الامكانيات لتنفيذ ذلك، فنظر إليَ مشفقاً و قال "أنت تعلم أن الأوامر من القيادة العامة للقوات المسلحة هي بعدم فتح النيران على العدو إلا بإذن منها كما تعلم إننا لو تقدمنا بمثل هذا الطلب فسيتم رفضه" .. فطلبت منه المحاولة و وافق على ذلك.
عدت إلى مكتبي و اتصلت باللواء طلعت حسن علي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة و قلت له في بساطة و عدم إنفعال أن احدى المدمرات الإسرائيلية دخلت مياهنا الإقليمية عند بورسعيد منذ ساعة و خرجت، و إنني أطلب الإذن بضربها إذا عاودت الدخول مرة أخرى فكان رده أنه يجب الحصول على موافقة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول محمد فوزي .. و بعد ساعة عاود اللواء طلعت الاتصال بي ليبلغني بتصديق القائد العام للقوات المسلحة على ضرب المدمرة إذا عادت ودخلت مياهنا الاقليمية.
انطلقت و الحماس يملأني لجمع أعواني من القادة بمكتبي (العقيد محمد علي محمد و المرحوم العقيد محمد عادل هاشم والمرحوم العقيد علي جاد) و أخذنا نتدارس الموقف معاً و كيف يمكننا استدراج المدمرة إلى داخل مياهنا الإقليمية.
قمنا في الساعة 12:00 ظهراً بإرسال إشارة عاجلة غير مشفرة إلى قائد قاعدة بورسعيد البحرية العقيد طلعت عبد الحميد نصر بألا يشتبك مع المدمرة الإسرائيلية الموجودة أمام القاعدة و أرسلت الإشارة باللاسلكي لكي يلتقطها طاقم العدو على المدمرة و كانت تلك الإشارة هي الطعم الذي وضعناه لهم لإشاعة الطمأنينة في نفوسهم و أنهم في أمان من أي رد فعل من الجانب المصري.
و في نفس الوقت قمنا بإرسال إشارة أخرى إلى العقيد طلعت نصر بالتليفون الأرضي بأن لا يلقي بالاً إلى الإشارة اللاسلكية المرسلة اليه سابقاً و أن يتم تجهيز لنشين صواريخ من طراز كومر السوفيتيKomar (*) و كل لنش مجهز بصاروخين سطح/سطح من طراز ستيكس Styx و الذي تزن رأسه المدمرة نصف طن، كما وضعت باقي القطع البحرية بالقاعدة في حالة تأهب (يُذكر أن الفريق محمود فهمي قام بعد ذلك بقطع الاتصال مع القيادة العامة بالقاهرة حتى يتجنب وصول أية تعليمات قد ترسل اليه بإلغاء الهجوم).
*(أنشئ لواء لنشات الصواريخ عام 1962 و تم تزويده بلنشات صواريخ سوفيتية صنعت عام 1948 و كانت من طراز لم يسبق لأي قوات بحرية في العالم تجربته من قبل في القتال – طاقم اللنش 18-20 فرد).
و ابتلعت المدمرة الطعم .. كان اللواء ذكري في مكتبي الساعة 16:45 حين دق جرس التليفون في مكتب العقيد محمد عادل هاشم الملاصق لمكتبي ففتح الباب الجانبي الذي يفصل بين المكتبين و اخذ يكرر ما يملى عليه من الطرف الأخر:
"هدف مقترب من اتجاه شمال شرق .. المسافة 25 ميل .. خط السير 265 .. السرعة 20 عقدة" ..
فأصدرت على الفور الأمر التالي: "تخرج اللنشات لضرب المدمرة الإسرائيلية .. يصير الضرب باللنش واحد فإذا غرقت المدمرة تعود اللنشات فوراً إلى القاعدة و إذا لم تغرق يصير الضرب باللنش الثاني .. تستعد المدفعية الساحلية للمساندة إذا تطلب الأمر .. يظل هذا الاتصال مفتوح و يستمر الإمداد بالبلاغات عن الموقف بصفة مستمرة".
تأخر خروج لنشات الصواريخ فقال لي اللواء فؤاد ذكري إذا لم تخرج اللنشات بحلول الساعة الخامسة تلغى العملية، و بالفعل مرت الساعة الخامسة دون أن تنطلق اللنشات فأخفيت الأمر عن اللواء ذكري و في الساعة 17:10 انطلق سرب لنشات الصواريخ المصرية من قاعدة بورسعيد لتنفيذ المهمة، اللنش الأول رقم 504 بقيادة المرحوم النقيب أحمد شاكر عبد الواحد القارح قائد التشكيل و مساعده الملازم أول حسن حسنى، و اللنش الثاني رقم 501 بقيادة النقيب لطفى جاب الله ومساعده الملازم أول ممدوح منيع (زوج ابنة عمي)، و يذكر أن هذا السرب كان مشهور بإسم السرب الأحمر نظراً لحماس أفراده و تشوقهم للقتال.
انطلق اللنشان متجهين شمالاً في جو خريفي جميل فوق سطح بحر هادئ و إلى يسارهم شمس تميل نحو المغيب وعلى ظهر كل لنش طاقم شباب "السرب الأحمر" المتقد حماسة و إن كان يشوبها بعض التوتر .. و للتضليل على العدو أتخذ السرب المسار المتبع لخروج مراكب الصيد من الميناء و التقى في طريقه بمجموعة من مراكب الصيادين المصريين في طريق عودتهم إلى الميناء وأدركوا أننا خارجون للتصدي للعدو فتعالت هتافاتهم بالتشجيع و الدعاء .. و بعد دقائق انفصل لنش القيادة عن التشكيل (اللنش رقم 504 بقيادة النقيب أحمد شاكر) و انطلق منفرداً بسرعته القصوى و محركه يزأر بقوة متخذاً خط سير الإطلاق و في الساعة 17:25 دقيقة انطلق أول صاروخ في التاريخ البحري الحربي ليصيب قطعة بحرية معادية .. توالت البلاغات متلاحقة من قاعدة بورسعيد البحرية إلى مكتب العقيد عادل هاشم حيث تجمعنا كلنا ..
"صاروخ نمرة واحد طلع .. صاروخ نمرة واحد أصاب الهدف .. صاروخ نمرة اثنين طلع .. صاروخ نمرة اثنين أصاب الهدف" ..
و بعد ثوانٍ شوهد في الأفق وهج شديد و في الساعة 17:30 أرسل النقيب أحمد شاكر الإشارة التالية:
"تم الاشتباك مع الهدف و تدميره و إغراقه طبقاً للأوامر – انتهى".
أصدرت الأمر بعودة اللنشين فوراً على أن يظل اللنش 501 بقيادة النقيب لطفي جاد الله في حالة استعداد تحسباً لظهور الهدف الأخر .. و وقف الأهالي على لسان بورسعيد في استقبال حماسي رائع للنشين العائدين إلى قاعدتهم يهللون ويكبرون و يلوحون لأطقمتهم بينما كان قادة العملية في بورسعيد و الإسكندرية يتبادلون التهاني في فرحة و سعادة غامرة.
ظل الاتصال مفتوحاً و مستمراً مع القاعدة البحرية ببورسعيد من خلال تليفون مكتب العقيد عادل هاشم و استمرت البلاغات تأتي إلا أنها انقطعت لمدة 45 دقيقة لحدوث عطل بالرادار(*) .. و في حوالي الساعة 18:50 تم إصلاح الرادار و وصل في الحال بلاغ يفيد ظهور هدف آخر مماثل في نفس الموقع تقريبأً فأصدرت الأمر بإنطلاق اللنش الثاني للتعامل مع الهدف وإغراقه .. و انطلق فوراً اللنش 501 بقيادة النقيب لطفي جاد الله لتنفيذ المهمة و في الساعة 19:40 توالت البلاغات .. "صاروخ نمرة واحد طلع .. صاروخ نمرة واحد أصاب الهدف .. صاروخ نمرة اثنين طلع .. صاروخ نمرة اثنين أصاب الهدف" و ظهر وهج شديد عدة مرات في الأفق في ظلام الليل تبعه صوت انفجارات عديدة مدوية سمعها أهالي بورسعيد و اقترب اللنش 501 لمسافة خمسة أميال من الهدف حيث أمكن رؤية الحطام المشتعلة بالعين المجردة و في الساعة 20:00 غرق الهدف و اختفى تماماً من على شاشات الرادار".
*(لم يكن هناك عطل بالرادار و لكن مع خروج اللنشات في الهجوم الأول طلب النقيب أحمد شاكر قائد التشكيل إيقاف تشغيل رادارات القاعدة البحرية حتى لا يحدث أي تداخل بينها و بين الرادارات باللنشات .. و بالفعل تم إيقاف تشغيل الرادارات ثم إعادة تشغيلها بعد عودة اللنشات).
و بعد 10 دقائق و في الساعة 20:10 أعلنت اسرائيل غرق مدمرة إسرائيلية و لم تعلن عن اسمها إلا بعد ذلك و حددته بأنها المدمرة "إيلات" و هو ما نقلته عنها البيانات المصرية بعد ذلك (أفاد أول بيان مصري بغرق قطعتين بحريتين و هو ما ذكرته جريدة الأخبار في عنوانها الرئيسي).
طلبت إسرائيل من قوات الرقابة الدولية السماح للطائرات و السفن الإسرائيلية القيام بعمليات الإنقاذ و استجابت مصر للطلب و لم تتدخل في العمليات التي استمرت طوال الليل على ضوء المشاعل التي تلقيها الطائرات.
تصاعدت الاحتجاجات من كافة الجهات الإسرائيلية تستنكر هذا العمل "العدواني" الغير مبرر من الجانب المصري و خرقها لاتفاقية وقف اطلاق النار و للقوانين الدولية كما تمت الدعوة لاجراء تحقيق حول أسباب الحادث مع تكرار الإشارة الى أن هذا يعد انتصار للسلاح السوفيتي في محاولة لإستفزاز الحليف الأمريكي، كما لم يستطع الجانب الإسرائيلي في تعليقاته أن يتجاهل أن تقديراتهم لاستعادة المصريين لقدراتهم القتالية كانت خاطئة.
كان رد فعل إسرائيل هو قيامها يوم الثلاثاء 24 أكتوبر بقصف معامل تكرير البترول في الزيتية بالسويس بنيران المدفعية كما حاولت ضرب السفن الحربية المصرية شمالي خليج السويس .. كما دفع إغراق المدمرة "ايلات" إسرائيل إلى سرقة خمسة لنشات صواريخ من نوع (سعر Sa’ar 3) كانت قد تعاقدت على تصنيعها في ميناء شربورج بفرنسا فلما أصدر الرئيس الفرنسي شارل ديجول قراراً بحظر تصدير الأسلحة إلى منطقة الشرق الأوسط قامت إسرائيل بسرقة اللنشات يوم 24 ديسمبر 1969 و الهرب بها إلى إسرائيل.
يذكر أن ذات المدمرة "إيلات" كانت قد نجحت في أسر المدمرة المصرية "ابراهيم الأول"(*) أثناء اشتباكات حرب 1956 حيث كانت المدمرة المصرية تقوم بقصف ميناء حيفا فتعقبتها المقاتلات الإسرائيلية و مدمرتين فرنسيتين مع المدمرة الإسرائيلية "إيلات" حتى نجحوا في محاصرتها و أسرها و ضمتها إسرائيل إلى أسطولها البحري تحت اسم "حيفا INS Haifa K-38"، كما سبق أيضاً للمدمرة "إيلات" القيام بهجوم على زورقين للطوربيد مصريين (الزورق 225 بقيادة الشهيد النقيب عوني عازر قائد التشكيل و الزورق 236 بقيادة الشهيد النقيب ممدوح شمس) و أغرقتهم في 11 يوليو 1967 .. و كان يوم 21 اكتوبر 1967 هو موعد انتقام البحرية المصرية.
*(دخلت المدمرة الخدمة في البحرية البريطانية عام 1940 ثم انتقلت إلى الصين عام 1948 و حصلت عليها مصر عام 1949 وأسرتها إسرائيل في 31 أكتوبر عام 1956 .. و تشير بعض المصادر إلى أن المدمرة "إيلات" هي المدمرة المصرية "ابراهيم الأول" و هي معلومة خاطئة).
غرقت المدمرة "إيلات" و عليها طاقمها المكون من 199 فرد بالإضافة إلى دفعة من طلبة الكلية البحرية الإسرائيلية كانت على ظهرها فى رحلة تدريبية (تشير المصادر الإسرائيلية إلى غرق 47 فرد فقط) .. و كانت تلك هي المرة الأولى فى تاريخ المعارك الحربية البحرية التي يتم فيها تدمير سفينة حربية كبيرة بصواريخ يطلقها زورق بحرى صغير مما كان له أثر كبير على تطوير نظريات المواجهة العسكرية البحرية و الفكر العسكري عموماً ..
و يضيف البطل الملازم أول ممدوح منيع ضابط أول اللنش 501 أن عدد الضحايا يتجاوز 200 قتيل بكل تأكيد إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك قطعة بحرية أخرى غرقت في نفس الهجوم (كما سنشير فيما بعد) مضيفاً أن جثث القتلى و الغرقى ظلت تظهر على شواطئ بورسعيد طوال أكثر من شهر بعد ذلك.
و أصبح يوم 21 اكتوبر هو عيد البحرية المصرية.
هل غرقت قطعة بحرية أخرى بالإضافة إلى المدمرة "إيلات" ؟
أشار البيان الرسمي الأول للقوات المسلحة المصرية إلى غرق قطعتين بحريتين ثم تبعه البيان الثاني ليشير إلى غرق قطعة واحدة فقط و هي المدمرة "إيلات" إلا أن العديد من الشواهد تجمع على غرق قطعة بحرية أخرى معها .. قامت المجموعة 73 مؤرخين ببحث مفصل في هذا الأمر نشرته على موقعها يشير إلى إغراق قطعتين، الأولى هي المدمرة "إيلات" في هجوم اللنش 504 والثانية هي توائمها المدمرة "يافو" في هجوم اللنش 501 و استندت في ذلك إلى عدة شواهد نوجزها فيما يلي:
-
تم رصد أكثر من هدف بالرادار مساء الجمعة 20 أكتوبر و تم تعزيز ذلك فجر السبت 21 أكتوبر ببلاغ من القبطان أمون واصف عن رؤيته لمدمرتين إسرائيليتين على مسافة أربعين ميل شمال شرق بورسعيد.
-
المدمرتان "إبلات" و "يافو" من طراز Z البريطاني المنشأ و هما متطابقتان تماماً و لهما نفس "البصمة الرادارية" و لا يمكن التمييز بينهم من خلال الرادار.
-
تم الهجوم الأول الساعة 17:30 بصاروخين أطلقهم اللنش 504 زنة الرأس المتفجرة لكل صاروخ نصف طن.
-
تم الهجوم الثاني الساعة 19:40 من مساء نفس اليوم بصاروخين أيضاً من نفس الطراز أطلقهم اللنش 501 و غرق الهدف الساعة 20:00 أي بعد ساعتين و نصف الساعة من اصابة الهدف الأول.
-
أعلنت الإذاعة الإسرائيلية في الساعة 20:10 مساء عن غرق قطعة بحرية واحدة (دون ذكر اسمها) أي بعد 30 دقيقة من الهجوم الثاني و بعد 10 دقائق فقط من غرقه بينما كان الهجوم الأول قد تم منذ أكثر من ساعتين و نصف الساعة، ومن المعروف أن البيانات العسكرية تمر على عدة قنوات لمراجعتها و التصديق عليها قبل أن يتم إذاعتها و لا يمكن أن يكون كل هذا قد تم في خلال 10 دقائق فقط من لحظة غرق الهدف في الهجوم الثاني و على ذلك فلا بد أن يكون هذا الإعلان يشير إلى الهجوم الأول (الذي تم الساعة 17:30) و لم يتناول الهجوم الثاني على الإطلاق (الذي تم الساعة 19:40).
هذا ملخص للشواهد التي تستند اليها دراسة المجموعة 73 مؤرخين إلا أن هذا التفسير يعترضه ما أعلن عن وجود المدمرة "يافو" في زيارة لمالطا في تاريخ مقارب للأحداث كما أن المدمرة "يافو" ظلت مسجلة في الخدمة حتى عام 1970 بالإضافة إلى أن بلاغ القبطان أمون واصف عن رؤيته لمدمرتين لا يجزم بأن المدمرة الثانية هي "يافو" بالتحديد و أخيراً إفتراض أن صاروخين كافيين لإغراق كل مدمرة .. فمن هي القطعة البحرية الثانية و ما موقعها من الأحداث؟
كان السرد السابق للأحداث من واقع مذكرات الفريق محمود فهمي قائد القوات البحرية (عميد و رئيس شعبة العمليات البحرية حينئذاً) و من واقع تحليل المجموعة 73 مؤرخين، و لكن يضيف لنا الملازم أول ممدوح منيع ظابط أول اللنش 501 تفاصيل جديدة فيقول:
"هجوم اللنش 504 لم يغرق المدمرة "إيلات" فقد أصاب الصاروخ الأول سطحها فدمره بما عليه بينما أصاب الصاروخ الثاني غرفة المحركات فأعطب المدمرة و أقعدها عن الحركة تماماً و لكنه لم يغرقها و كانت المدمرة لا تزال واضحة على شاشات الرادار و نحن في طريق العودة و كان المفروض أن يتم تطوير الهجوم فوراً على المدمرة بإطلاق الصاروخين من اللنش 501 حسب الأوامر .. و كان البلاغ المتسرع الذي أفاد بغرق الهدف خطأ بالغ من قائد التشكيل خصوصاً أنه كان قد تم نقل الخبر إلى القيادات العليا.
عندما عادت لنشات الصواريخ المصرية إلى قاعدتها ببورسعيد ثم أعيد تشغيل رادارات القاعدة الساعة 18:50 عاد الهدف الأول للظهور في نفس الموقع بل و ببصمة رادارية أكبر بمنتهى الوضوح مما يشير إلى وجود هدف ثاني ملاصق للهدف الأول يقوم غالباً بأعمال الإنقاذ فصدرت الأوامر بإنطلاق اللنش 501 للتعامل مع الهدف و تطوير الضربة .. بغياب عنصر المفاجأة أصبح خروج اللنش 501 بمثابة عملية انتحارية حيث أن وجود وحدات معادية أخرى أسرعت لنجدة المدمرة و حمايتها أمر مؤكد خصوصاً أن الهجوم تم منذ أكثر من ساعة، لذا صدرت الينا التعليمات بالتوجه إلى ميناء الإسكندرية فور الإنتهاء من تنفيذ المهمة مباشرة .. أنطلقنا الساعة 19:00 لتنفيذ الأوامر فلما أصبحنا على مسافة 11,2 ميل بحري من الهدف و في الساعة 19:40 أطلقنا الصاروخ الأول ليحقق إصابة موفقة بمخزن الذخيرة بالمدمرة "إيلات" الذي أنفجر و قام بشطرها إلى نصفين لتغرق في خلال 20 دقيقة كما تسببت قوة الإنفجار إلى حدوث انفجار مماثل بمخزن الذخيرة بالهدف الثاني الملاصق له (تتسبب الموجة الإنفجارية الناتجة عن الانفجار الأصلي و درجة الحرارة العالية المتولدة عنها إلى انفجارات ثانوية للمواد المتفجرة المجاورة لها فيما يعرف بإسم الإنفجار العاطفي) و يعزز ذلك تكرار ظهور وهج شديد في الأفق عدة مرات و توالي الانفجارات المدوية لتلقى القطعة البحرية الثانية نفس مصير المدمرة "إيلات" .. أما الصاروخ الثاني فقد انفجر على سطح الماء في موقع غرق القطعتين البحريتين حسب احداثيات الموقع السابق تغذية الصاروخ بها مما تسبب في زيادة عدد الضحايا .. و بالفعل تمت مطاردة اللنش 501 إلا أنه نجح في الهروب من مطارديه و تضليلهم بأن يشحط عمداً في المياه الضحلة على شواطئ دمياط بحيث لا يمكن تمييزه عن الأرض و يختفي بذلك عن شاشات رادار مطارديه .. و تم إنقاذ الطاقم و اللنش بعد ذلك بيومين".
هذه هي القصة عن لسان ضابط أول اللنش 501 و هي و إن كانت تختلف عن قصة الفريق محمود فهمي و عن تحليل المجموعة 73 مؤرخين إلا أن قيمتها ترجع إلى أن مصدرها أحد الشهود الذين عايشوا الأحداث شخصياً .. أما غرق قطعة بحرية ثانية فأصبح أمر لا ريب فيه في ضوء كل ما سبق من شهادات و تحليلات ليصبح الخلاف الوحيد هو هويتها .. و قد تم تحديد ذلك فيما بعد بأنها المدمرة "حيفا" INS Haifa K-38 (المدمرة المصرية ابراهيم الأول سابقاً)، و قد تم ذلك بناء على متابعة و تحليل بيانات المسرح البحري العالمي حيث لم تظهر المدمرة "حيفا" بعد ذلك أبداً بينما ظلت المدمرة "يافا" مسجلة في الخدمة حتى عام 1970.
بذلك يكون التفسير المنطقي لتسلسل الأحداث في ضوء ما سبق هو أن المدمرة "إيلات" أصيبت في الهجوم الأول (اللنش 504) وتم تدمير غرفة المحركات فتعطلت المدمرة عن الحركة و لكنها لم تغرق فهرعت المدمرة "حيفا" لإنقاذها و يعزز ذلك عدم وصول أية قطع بحرية أخرى أو طائرات للإنقاذ إلي الموقع، فلما أعيد تشغيل رادار القاعدة البحرية المصرية (بعد ايقافه قبل الهجوم الأول) ظهر الهدف بوضوح من جديد بل و ببصمة رادارية أكبر نظراً لوجود المدمرة "حيفا" بجوار المدمرة "إيلات" فلما تم الهجوم الثاني (اللنش 501) – بعد أكثر من ساعتين من الهجوم الأول – أصيب مخزن الذخيرة في المدمرة "إيلات" كما تبعه انفجار مماثل في مخزن الذخيرة بالمدمرة "حيفا" و هو الأمر الذي يعززه تكرار ظهور وهج شديد أضاء السماء عدة مرات تبعه انفجارات مدوية متعددة على عكس ما شوهد عقب الهجوم الأول (اللنش 504) .. و هنا فقط طلبت إسرائيل من قوات الرقابة الدولية السماح لقوات الإنقاذ بالوصول إلى موقع الأحداث و هو الأمر الذي لم يحدث طوال أكثر من ساعتين منذ الهجوم الأول.
أما سبب عدم صدور بيان مصري بإغراق قطعتين بحريتين فيرجع إلى قرار الرئيس جمال عبد الناصر بعدم الإعلان عن أي أصابة إلا بعد التأكد من صحتها بصورة مادية 100% أو بشهادة شهود عيان لكي تعود للبيانات العسكرية المصرية مصداقيتها أمام الشعب المصري و العالم الخارجي .. و حيث أن الهجوم تم ليلاً و لم يمكن التعرف على الهدف الثاني سوى بالرادار لذا لم يتم الإعلان سوى عن إغراق المدمرة "إيلات" فقط.